أدري أنه من المبكر وربما من الظلم أيضا أن نتحري حصاد الثورة بعد مضي خمسة أشهر فقط علي قيامها، لكننا لا نستطيع أن نغفل إشارات وعناوين ظهرت في فضاء ما بعد الثورة، مسكونة برسائل ينبغي الوقوف عندها. '1' لم أصدق عينيَّ حين وقعت علي المشهد أمام مبني التليفزيون المصري في 'ماسبيرو'، إذ لا أخفي أنني حديث عهد بالمكان الذي ظللت ممنوعا من دخوله طوال نحو أربعين عاما، وقد فاجأني وأدهشني كم الخيام المنصوبة حوله وأعداد البشر الممددين علي رصيفه، وحزام الاسلاك الشائكة الذي يحيط به وكم الجنود المدججين بالسلاح المرابطين علي أبوابه والمنتشرين في طابقه الأرضي. جاء من ساعدني علي الوصول إلي مدخل التليفزيون. وإذ لاحظ دهشتي فإنه تمتم قائلا إن هؤلاء هم أهالي مدينة السلام الذين طردوا من محال اقامتهم ووعدوا بالحصول علي مساكن بديلة، ولكنهم وجدوا أنفسهم يقيمون بمخيم أقيم في العراء. وحين لم يجدوا أحدا يحل مشكلتهم أو يستمع إليهم فإنهم قرروا الاعتصام أمام مبني التليفزيون لكي يوصلوا شكايتهم. حين تحريت الأمر قيل لي إنهم قضوا أربعة أشهر في المخيم وعاشوا في ظروف شديدة البؤس، فالمكان لا يختلف كثيرا عن حظائر الحيوانات، مياهه ملوثة وحماماته شديدة القذارة، وأكوام القمامة متناثرة في المكان مطلقة روائحها الكريهة وجاذبة إليها القطط والفئران. قيل لي أيضا إن الأمر لم يختلف كثيرا حين انتقل بعضهم للاعتصام أمام ماسبيرو. ما جد عليهم هو شاطئ النيل الذي أصبحوا يغسلون عنده ويقضون حاجتهم فيه، ورغم أن اثنين ماتا غرقا أثناء الاستحمام في النيل وثالثة دهستها سيارة، فإن وجودهم في المكان اقنعهم بأنهم بذلك حملوا مشكلتهم إلي الشارع، واعطاهم أملا في ان يري المسئولون المارون صورهم بعد أن فشلوا في اسماعهم أصواتهم. حين دعيت إلي التليفزيون قيل لي إن موضوع الحوار هو 'اسئلة الساعة' التي علي رأسها السؤال: الدستور أولا أم الانتخابات أولا؟ من ثم فإن ذهني كان مشحونا بأصداء الضجيج الإعلامي المثار حول الموضوع، إلا أن صدمة المشهد الذي رأيته أمام مبني التليفزيون أطارت من رأسي ما أعددته ورتبته من أفكار لمناقشة الموضوع، حتي بدا ذلك المشهد وكأنه دبوس تم غرسه في بالونة كبيرة فذوبها واعادها إلي حجمها الضئيل الذي تعتصره الأصابع الواهنة، الأهم من ذلك أن المقابلة بين هم الناس الممددين علي الرصيف وبين الضجيج الذي يملأ الفضاء الإعلامي في مصر حول أيهما أولا، هذه المقابلة جاءت كاشفة لاتساع وعمق الفجوة بين هموم الناس وحسابات النخبة. '2' الذين خرجوا إلي الميادين والشوارع وتصدوا للشرطة والبلطجية 'لم يخرجوا لكي يطالبوا بالدستور سواء كان أولا أم آخرا، ولا بالانتخابات. لم يخرجوا لتكون مصر ليبرالية أو مدنية أو إسلامية أو مهلبية. خرجوا فقط للأسباب التي تلمس واقعهم. أسعار الطماطم والملابس والمساكن التي ترتفع بجنون. أمين الشرطة الذي يوقف 'ميكروباص' شقيقه ليسرق منه خمسين جنيها. الضابط الذي حرر له محضرا واحتجزه وعذبه عدة أيام بلا ذنب. اخته التي لا يملك نقودا لتزويجها. عمه الذي تم تسريحه من عمله بعد خصخصة المصنع. ابن عمه الذي خسر كل شيء في أراضي شباب الخريجين التي مات فيها الزرع عطشا بعد تفضيل أراضي الكبار. خالته التي ماتت بالسرطان بعدما لم يجد لها سريرا بالمستشفي الحكومي..إلخ'. 'هل كان يتصور أحد أنه سيأتي يوم يقول فيه البعض إن عدم وضع الدستور أولا هو خيانة لدماء الشهداء، ليرد عليهم فريق الانتخابات أولا قائلين إننا أكثر من قدم الدماء والتضحيات دفاعا عن الثورة؟ بالنسبة للفقراء المعدمين في مصر، فإن كل الصراع حول الدستور أو الانتخابات ونظام حكم البلد عبارة عن 'كلام جرايد' لا يمثل أي شيء، إلا بقدر تأثيره المباشر جدا علي فرص عملهم ورواتبهم وظروف معيشتهم'. هذه الفقرات ليست لي، ولكنها مقتبسة من تدوينة ثرية لناشط لا أعرفه اسمه محمد أبوالغار 'سجلها في 18/6' تطرق فيها إلي الحديث عن مؤتمر لممثلي المنظمات الإسلامية عقد في التسعينيات. تحدث فيه السيد رجب طيب أردوغان الذي كان رئيسا لبلدية استنبول وقتداك. فلم يشر إلي تطبيق الشريعة أو نشر التعاليم الإسلامية بين الناس، وإنما قال للحاضرين إنه سيعمل علي حل مشكلة الصرف الصحي في مدينته، وهو ما ضج له الحاضرون بالضحك. وعلق صاحب المدونة علي القصة قائلا: إن هذا المنطق هو الذي أوصل تركيا إلي ما وصلت إليه. فالناس لا يصوتون لأردوغان لأنه إسلامي أو لأنه سيضع دستورا أكثر ديمقراطية، ولكن لأنه أثبت قدرته علي حل مشاكلهم الحياتية اليومية. ثم ختم قائلاك 'ليس لدينا أردوغان مصري. لدينا فقط العواجيز النخبويون المملَّون من كل الأطراف، الذين لايزالون غارقين في تنظيرات إسلامية وعلمانية، ويتجادلون حول الدستور أولا أو الانتخابات أولا. ولهم جميعا أقول: الفقراء أولا'. '3' هذا النداء الذي استدعي قضية العدل الاجتماعي ترددت أصداؤه بسرعة في الفضاء السياسي، جاء كاشفا وفاضحا للنخبة التي انشغلت وشغلت الرأي العام معها بأشياء عدة لا تمثل الأولوية الحقيقية لأهداف الثورة، الأمر الذي يستدعي مجموعة من الملاحظات هي: • إن موضوع السلطة أصبح محور الاهتمام العام، الأمر الذي صرف الانتباه عن قضايا المجتمع وهموم الناس الحقيقية. والمفارقة التي أشرت إليها توا ليست سوي نموذج صغير نجد صورة مبكرة له في المجال العام. فالانشغال برئاسة الدولة يحتل حيزا كبيرا من الاهتمام، في حين أن أحدا لا يتحدث عن انتخابات مجلس الشعب ولا عن المجالس المحلية أو غير ذلك من المؤسسات التي تمثل المجتمع وتدير حركته. حتي الجماعات الأهلية والدينية باتت مشغولة بتكوين الأحزاب وإثبات الحضور السياسي، وانصرفت عن خدمة الناس وتحسين أوضاعهم، خصوصا فئاته الفقيرة والمستضعفة. أما النخب صاحبة الصوت العالي، فإننا لم نسمع لاحد منهم دعوة أو رأيا في التعامل مع كارثة انحطاط مستوي التعليم أو تدهور الخدمات الصحية أو بؤس العشوائيات وسكان القبور أو مشكلة القري المحرومة من المياه النقية والصرف الصحي.. إلخ. • إن الجدل والتراشق الذي يشهده الفضاء المصري تديره وتؤججه القوي القديمة صاحبة الانقسامات التقليدية في المجتمع المصري، الذين وصفهم الناشط محمد أبوالغار بأنهم 'العواجيز النخبويون المملون'. أعني أنه اشتباك له جذوره الممتدة إلي الماضي، أما الاجيال الجديدة فهي ليست طرفا فيه وربما أصبحت ضحية له. في هذا الصدد فإنني أزعم أن الثقة والعلاقة بين شباب الإخوان المسلمين مثلا وشباب الوفد والتجمع والحزب الناصري، أفضل كثيرا من علاقة القيادات التي تتصدر الواجهات علي الجانبين، وإذا صح ذلك فهو يعني أن القوي القديمة التي لا تثق في بعضها البعض ظلت طول الوقت مشدودة إلي الماضي بأكثر من تفاعلها مع الحاضر أو تطلعها إلي المستقبل. • إنه في ظل الفراغ السياسي المخيم فإن حضور الناشطين السياسيين أصبح يتم علي شاشات التليفزيون، في حين لا نكاد نرصد له حضورا مماثلا علي أرض الواقع. حتي غدت الثرثرة في برامج الفضائيات بديلا عن الفعل السياسي. والأول أسهل وأقل تكلفة وأكثر وجاهة. • لأن الإعلام بات ساحة الحضور والتأثير السياسي، فإن مرحلة ما بعد الثورة شهدت تحالفا جديا بين رجال الأعمال والإعلام، ظهر بديلا عن تحالف الثروة والسلطة الذي تبناه النظام السابق. ولست واثقا من دقة الخبر الذي ذكر أن 25 قناة فضائية جديدة ستفتتح في مصر، لكن لدينا من معطيات الواقع ما يكفي في التدليل علي أن ثمة تسابقا بين رجال الأعمال للعب دور في الحياة السياسية من خلال الدخول إلي ساحة الإعلام المرئي فضلا عن المكتوب. ولا غضاضة في ذلك من حيث المبدأ. خصوصا أنه حاصل في الدنيا بأسرها. ومفهوم ومقبول مهنيا وسياسيا أن تعبر المجموعة الإعلامية عن هذا التيار أو ذاك، لكن المشكلة عندنا أن أجندة رجال الأعمال وتحيزات المنابر المعبرة عنها أصبحت تتدخل في صياغة الأخبار وتلوينها، غير مكتفية بالتعبير عن تلك الأجندة في مجال الرأي. ومثل ذلك التلاعب في صياغة الأخبار أصبح يتم بصورة فجة في بعض الصحف المصرية خصوصا في الآونة الأخيرة. الأمر الذي يخل بالثقة في حياد وصدقية ما ينشر من أخبار، ناهيك عن أنه يعتبر إهدارا لقيم المهنة ومبادئها. '4' أكرر أننا ينبغي ألا ننسي ونحن نطالع هذه الصورة أن عمر الثورة لم يتجاوز خمسة أشهر، وأننا مازلنا في مرحلة رفع الأنقاض بعد هدم النظام القديم. بالتالي فلئن بدا أن ثمة خللا في البوصلة أو تخبطا في الخطي فمن الانصاف أن يحمل ذلك علي قصر الفترة التي مرت بعد قيام الثورة، إضافة إلي خصوصية وفرادة الحدث ذاته. إذ حين تقوم في مصر ثورة شعبية عارمة لا رأس لها ولا قيادة، وحين يتسلم السلطة بعد ذلك طرف آخر غير الذي قام بالثورة، وحين يقع ما وقع في بلد يعاني الجدب السياسي والفراغ الهائل، فلا يستغرب أن يعاني الوضع الجديد أمثال تلك الأعراض وأكثر منها. لقد أدركنا من خلال تجربة الأشهر الخمسة الماضية أن الثورة لاتزال بحاجة إلي 'بوصلة' يتوافق عليها الجميع ويهتدون بها. وتلك وظيفة النخبة بالدرجة الأولي. ولكن النخب المصرية رسبت في اختبار الاستفتاء الشعبي الذي أصبح يطعن فيه البعض وفي الأغلبية التي صوتت فيه حين جاءت النتيجة بغير ما يشتهون. ولعبت القوي القديمة دورها في إذكاء تلك الفتنة التي كادت تفضي إلي استقطاب خطر يقسم البلد ويجهض الحلم، وأخطر ما في تلك الفتنة ليس فقط أن 'الليبراليين' كانوا طرفا أساسيا فيها انطلاقا من المخاوف والظنون، ولكن أنها جرفت الحوار بعيدا عن مسار الثورة، حين انشغلت النخبة عن هموم الجماهير الغفيرة بالعراك حول هيكلة السلطة. وترتب علي ذلك ان ظل المجتمع عاجزا عن التقدم إلي الأمام طيلة الأشهر التي خلت. وكان لذلك اللغط صداه في دوائر صناعة القرار، حتي رأينا أن رئيس الوزراء يتحدث عن تأييده لتأجيل الانتخابات في حين كرر المجلس العسكري أن الانتخابات ستجري أولا وفي موعدها. لقد لاح أخيرا بصيص من الضوء حين طرحت فكرة تقول: إذا كنتم خائفين من الجهة التي ستضع الدستور، فلماذا لا يتم التوافق من الآن حول مبادئ تبدد ذلك الخوف وتسمح للمسيرة بالتقدم والخروج من الجمود الراهن؟ وهو حل يبدو مسكنا ومهدئا للخواطر، لكنه لا يكفي لتوفير 'البوصلة' المنشودة وإن فتح الطريق إلي ذلك. أما إذا استمر صراع القوي القديمة فأخشي ما أخشاه أن تصبح تلك القوي عقبة في طريق الثورة، وأن يتأجل شعار الفقراء أولا، ليصبح دعوة إلي الخلاص من النخب أولا