عادت حشود الشرطة المصرية تطوف في شوارع مصر بعد فترة من الغياب يراها البعض قد طالت بينما يراها البعض الآخر أنها كانت نتيجة طبيعية لثورة اهتزت بها أركان العالم.. ما حدث في ثورة 25 يناير لم يكن شيئا بسيطا لقد كانت زلزالا حطم أشياء كثيرة وترك آثارا بعيدة لم ندرك بعد حجمها في كل مستويات الحياة. عادت مواكب الشرطة تطوف شوارعنا وتنقل للمواطن المصري إحساسا بالأمان لم يتوافر له طوال الشهور الأخيرة.. لقد عادت هذه الحشود بعد فترة سجال حول دور الشرطة والعلاقة بينها وبين المواطنين. لا بد أن أؤكد أن رجل الشرطة الذي يحرس أمن الوطن واستقراره لم يكن قادما من بوركينا فاسو أو موزمبيق.. إنه مواطن مصري خرج من طين هذه الأرض وعاش في ربوعها وتعلّم في مدارسها وشرب من نيلها.. إنه أخي وأخوك.. وابن عمي وابن عمك.. ولا توجد أسرة في مصر إلا وبين أبنائها ضابط في الشرطة أو مجند في الأمن المركزي. سادت سحابة سوداء بعد ثورة 25 يناير بين المواطنين وجهاز الشرطة هذه حقيقة لا خلاف عليها.. ولم يكن جهاز الشرطة هو الجهاز الوحيد في الدولة المصرية الذي ساءت علاقته بالشعب هناك أجهزة ومؤسسات أخري تحملت جزءا كبيرا مما أصاب الوطن خلال ثلاثين عاما من الفساد.. هناك مجلس الشعب ومجلس الشوري وحكومة رجال الأعمال والانتخابات المزورة للحزب الوطني وعدد كبير من رجال الأعمال الذين استباحوا ثروة هذا الوطن.. وهناك أعداد كبيرة من المسئولين الصغار والكبار الذين ألحقوا أضرارا كبيرة بالمصريين.. لم يكن جهاز الشرطة هو الوحيد المدان أمام المصريين. في السنوات الماضية حدثت تغيرات شديدة في أداء جهاز الشرطة في مصر أمام سياسات عليا انتهجتها الحكومات وسخرت فيها كل أجهزة الدولة وفي مقدمتها رجال الشرطة.. كان جهاز الشرطة هو الأداة التي استخدمها النظام السابق من أجل قمع الشعب المصري والحقيقة أنها لم تكن فقط سياسة جهاز ولكنها في الواقع كانت سياسة دولة.. لقد استخدمت الدولة المصرية جهاز الشرطة في كل أعمالها القذرة ابتداء بعقاب المعارضين وانتهاء بالتوسع الرهيب في عمليات القمع والتعذيب والسجون. في هذه الفترة تطلبت سياسة القمع التي اعتاد عليها النظام تغيير مناهج الدراسة لضباط الشرطة. كانت العصا والقنابل المسيلة للدموع هي أقصي ما تستخدمه الشرطة ضد المتظاهرين ولكن المناهج الدراسية سمحت لأول مرة في تاريخ الشرطة المصرية الحديثة بتغيير عقيدتها القتالية.. لقد أباحت هذه المناهج مبدأ قتل المواطن المصري بيد شقيقه ضابط الشرطة.. وفي تقديري أن هذا المنهج في التعامل الأمني مع المواطنين كان من أخطر وأسوأ التحولات في تاريخ الشرطة المصرية. حتي تؤصل المناهج الدراسية الخاطئة هذا الأسلوب في التعامل كان ولا بد أن ترتكز إلي مجموعة عوامل يقوم عليها هذا المنهج.. كانت قضية الإرهاب هي أهم الركائز التي قامت عليها أساليب القمع التي استخدمتها الشرطة.. ولأن الحكومات المتتالية أخطأت خطأ جسيما في فهمها لقضية الإرهاب حين اعتبرته مرضا فكريا فقد أخطأت مرة ثانية في أساليب العنف التي اتبعتها في مواجهة هذه الظاهرة.. لم يدرك المسئولون في الدولة أن الإرهاب لم يكن فقط ظاهرة دينية فكرية متطرفة ولكنه كان يعكس واقعا اقتصاديا مترديا وفاسدا ويعكس خللا اجتماعيا أمام غياب العدالة واجتياح الفقر لكل فئات المجتمع بجانب فساد أنظمة التعليم وانتشار الأمية. كان الخطأ في تفسير أسباب ظاهرة الإرهاب هو نفس الخطأ في أسلوب التعامل معها.. لم يستطع أحد أن يضع أمامه خريطة الإرهاب والمناطق التي انتشر فيها خاصة في صعيد مصر وهي المناطق التي انتشر فيها وهي المناطق الأكثر فقرا في ربوع المحروسة.. وبدلا من أن نواجه الإرهاب بحلول اجتماعية واقتصادية وفكرية مدروسة.. كان الاختيار الأبسط والأسهل هو أجهزة الأمن واستخدام أساليب الردع والقمع والطغيان. لو أن الملايين التي أنفقتها الحكومات المصرية المتعاقبة لتسليح أجهزة الأمن قد توجهت إلي المناطق الفقيرة في صعيد مصر لوفرت علي نفسها وعلينا فترات عصيبة من المواجهات الدامية بين أبناء الوطن الواحد. كان تغيير العقيدة القتالية لرجل الشرطة وحقه في استخدام الرصاص من أخطر السلبيات التي غرسها النظام السابق بكل مؤسساته في عقول شبابنا من ضباط الشرطة.. وبجانب هذا الخطأ فإن التوسع الرهيب في استخدام قوات الأمن في كل شيء وجعل مؤسسات الدولة بلا استثناء تلجأ إلي استخدام العنف في كل شيء ابتداء بالمظاهرات الطلابية وانتهاء بأساتذة الجامعات والقضاء والنقابات المهنية.. في الوقت الذي خرجت فيه جموع المصريين في مظاهرات سلمية كانت الدولة تستخدم قوات الأمن بضراوة ولم يكن من الحكمة في شيء أن تعتدي قوات الشرطة علي القضاة وأساتذة الجامعات والأطباء والصحفيين وطلاب الجامعات. كان التوسع في استخدام قوات الأمن ضد قوي المعارضة السياسية من اخطر الظواهر التي اجتاحت الشارع المصري في السنوات الأخيرة وهنا أيضا توسعت أجهزة الشرطة في عمليات الاعتقال السياسي خاصة بين جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الدينية المختلفة وكانت تجاوزات جهاز أمن الدولة في عمليات التعذيب من أسوأ الظواهر التي سادت هذه الفترة من حياة المصريين.. فقد ارتفعت أعداد المعتقلين وبلغت عشرات الآلاف وبقي هؤلاء في السجون دون محاكمات عادلة.. ولا شك أن هذه التجاوزات أفسدت العلاقة بين الشعب والشرطة خاصة مع إساءة معاملة المواطنين من بعض رجال الشرطة في الأقسام والمرور والمناطق الريفية والسجون والمعتقلات.. كانت هناك أيضا عمليات تمييز لا يمكن إنكارها تجسدت في التفاوت الرهيب في مستويات الدخول بين رجال الشرطة أنفسهم حيث تمتعت القيادات العليا بمستويات دخل غير مسبوقة وكان صغار الضباط يشاهدون ذلك كله ويترحمون علي أنفسهم. كان من أسباب الاحتقان أيضا أن الدولة بالغت كثيرا في حشد الإمكانيات الرهيبة لجهاز الشرطة سواء في استخدام التكنولوجيا الأمنية الحديثة أو التسليح بأنواعه المتقدمة أو السيارات المجهزة وجاءت هذه الإمكانيات لتترك قدرا كبيرا من الحساسيات بين الأمن وأجهزة الدولة الأخري التي تقلصت أدوارها ومسئوليتها في حياة المصريين. كل هذه المقدمات مهدت للصدام بين جهاز الشرطة والمواطن المصري خاصة أن هناك حالة من الاستخفاف بالمواطنين سادت رموز الحكم السابق وقياداته وانعكست بصورة مباشرة علي العلاقة بين الشرطة والشعب. حين خرج شباب الثورة إلي الشوارع يوم 25 يناير في مظاهرات سلمية كانت العلاقة بين الشرطة والشباب غاية في الرقي والحماية وكانت صورة الشباب الواعي نموذجا حضاريا فريدا.. في منتصف ليل اليوم الأول للثورة ظهرت أشباح أخري في ميدان التحرير غير قوات الأمن التي شاهدناها طوال اليوم واندفعت الأشباح واجتاحت جموع الشباب المسالمين لتبدأ مرحلة أخري من المواجهة التي حملت حالة احتقان ورفض طوال سنوات ما قبل الثورة ووصلت المواجهة إلي أسوأ مراحلها في ميدان التحرير وموقعة الجمل ومجزرة كوبري قصر النيل ثم كانت توابع المواجهة في اعنف مشاهدها في السويس والإسكندرية والمنصورة وبقية محافظات مصر. وحين خرج 12 مليون مواطن مصري في يوم رحيل الرئيس السابق كان جهاز الشرطة المصري قد ذاب تماما وتلاشي وسط هذه الجموع لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقة الصحيحة بين رجل الشرطة والمواطن. لا يوجد إنسان بلا خطيئة سواء في الشرطة أو غيرها.. إن في صفوف رجال الشرطة نماذج رفيعة في السلوك والأداء والولاء للوطن وهناك أيضا نماذج سيئة.. مثل كل المهن والأعمال في الصحافة تجد من باع قلمه ومن مات في سبيله وفي الطب تجد الطبيب الذي باع مريضه والطبيب الذي تبرع بدمه لهذا المريض وفي العدالة تجد العدالة مجسدة في قاص يخاف الله وآخر ركبة الشيطان.. لقد عاد رجال الشرطة إلي مواقعهم ومسئولياتهم في حماية أمن مصر وكثير ما اختلف الأشقاء وعادوا أكثر حبا لبعضهم البعض وإذا كانت الثورة قد اخرجت أجمل ما فينا فقد وضعت أساسا جديدا لعلاقة سوية بين الأمن والمواطن.. لقد أدرك رجل الشرطة أن عليه واجبات لهذا المواطن لا ينبغي أن يفرط فيها أو يسمع نداءات مسئولين كبارا لم يدركوا حقوق هذا المواطن.. علي جانب آخر لقد أدرك الشارع المصري أهمية ودور الشرطة طوال فترة غيابها وإذا كانت السحابات السوداء قد اخفت خلفها أشياء كثيرة فقد عادت الصورة أكثر وضوحا أمامنا. إن المهم الآن أن نعيد مناقشة العلاقة بين الشرطة والشعب وأن نغير مناهج الدراسة التي أفسدت الكثير من جوانب هذه العلاقة.. يجب أن تعود العقيدة القتالية القديمة إلي عقل ووجدان رجل الأمن المصري وأن يدرك الجميع أن حماية هذا الوطن مسئوليتنا جميعا. عادت حشود الشرطة المصرية تتلاحم مع الوطن ولا بد أن نفتح لها قلوبنا ونطوي صفحة الأمس بكل ما كان فيها من خطايا وأخطاء. رجل الشرطة أخي وصديقي وجاري وكم سهر من أجل راحة هذا الوطن فلنفتح قلوبنا لزمان قادم أكثر أمنًا وأكثر عدلا وأكثر إحساسا بقيمة الإنسان.. لن يجدي أن نستعيد صورا قبيحة أثناء أحداث الثورة ولكن يجب أن تبقي في عيوننا صورة شعب قدم للعالم نموذجا حضاريا رفيعا في الثورة بلا دماء وفي الرفض بلا جرائم وفي التوحد دفاعا عن تراب الوطن