حملة مكبرة لإزالة مخازن فرز القمامة المخالفة بحرم الطريق الدائري بحي الهرم    نتنياهو: لدى حماس 20 ألف مسلح ويجب أن تسيطر إسرائيل عسكريا على الضفة الغربية    نتنياهو: عواقب إعادة إيران بناء قدراتها وخيمة    طقس اليوم: مائل للدفء نهارا شديد البرودة ليلا.. والصغرى بالقاهرة 13    انفصال ميل جيبسون وروزاليند روس بعد 9 سنوات من ارتباطهما    نخبة الإعلام والعلاقات العامة يجتمعون لمستقبل ذكي للمهنة    وزارة الشباب والرياضة تحقق أهداف رؤية مصر 2030 بالقوافل التعليمية المجانية    موسكو: الاتحاد الأوروبي سيضطر لمراجعة نهجه في العقوبات ضد روسيا    هجوم أوكراني بطائرات مسيرة على موسكو    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأربعاء 31 ديسمبر    وخلق الله بريجيت باردو    وزارة الرياضة تواصل نجاح تجربة التصويت الإلكتروني في الأندية الرياضية    محكمة تونسية تؤيد حكم سجن النائبة عبير موسى عامين    ولفرهامبتون يحصد النقطة الثالثة من أرض مانشستر يونايتد    مصرع طفل دهسه قطار الفيوم الواسطي أثناء عبوره مزلقان قرية العامرية    قوات التحالف تنشر مشاهد استهداف أسلحة وعربات قتالية في اليمن وتفند بيان الإمارات (فيديو)    ذخيرة حية وإنزال برمائي.. الصين توسع مناوراتها حول تايوان    رئيس جامعة قنا يوضح أسباب حصر استقبال الحالات العادية في 3 أيام بالمستشفى الجامعي    د.حماد عبدالله يكتب: نافذة على الضمير !!    "25يناير."كابوس السيسي الذي لا ينتهي .. طروحات عن معادلة للتغيير و إعلان مبادئ "الثوري المصري" يستبق ذكرى الثورة    «مسار سلام» يجمع شباب المحافظات لنشر ثقافة السلام المجتمعي    «قاطعوهم يرحمكم الله».. رئيس تحرير اليوم السابع يدعو لتوسيع مقاطعة «شياطين السوشيال ميديا»    خالد الصاوي: لا يمكن أن أحكم على فيلم الست ولكن ثقتي كبيرة فيهم    استشهاد فلسطيني إثر إطلاق الاحتلال الإسرائيلي الرصاص على مركبة جنوب نابلس    الأمم المتحدة تحذر من أن أفغانستان ستظل من أكبر الأزمات الإنسانية خلال 2026    "البوابة نيوز" ينضم لمبادرة الشركة المتحدة لوقف تغطية مناسبات من يطلق عليهم مشاهير السوشيال ميديا والتيك توكرز    تموين القاهرة: نتبنى مبادرات لتوفير منتجات عالية الجودة بأسعار مخفضة    المحامى محمد رشوان: هناك بصيص أمل فى قضية رمضان صبحى    من موقع الحادث.. هنا عند ترعة المريوطية بدأت الحكاية وانتهت ببطولة    دعم صحفي واسع لمبادرة المتحدة بوقف تغطية مشاهير السوشيال ميديا والتيك توك    مصدر بالزمالك: سداد مستحقات اللاعبين أولوية وليس فتح القيد    شادي محمد: توروب رفض التعاقد مع حامد حمدان    نتائج الجولة 19 من الدوري الإنجليزي الممتاز.. تعادلات مثيرة وسقوط مفاجئ    التنمية المحلية: تقليص إجراءات طلبات التصالح من 15 إلى 8 خطوات    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    الخميس.. صالون فضاءات أم الدنيا يناقش «دوائر التيه» للشاعر محمد سلامة زهر    لهذا السبب... إلهام الفضالة تتصدر تريند جوجل    ظهور نادر يحسم الشائعات... دي كابريو وفيتوريا في مشهد حب علني بلوس أنجلوس    بسبب الفكة، هل يتم زيادة أسعار تذاكر المترو؟ رئيس الهيئة يجيب (فيديو)    د هاني أبو العلا يكتب: .. وهل المرجو من البعثات العلمية هو تعلم التوقيع بالانجليزية    حلويات منزلية بسيطة بدون مجهود تناسب احتفالات رأس السنة    الحالة «ج» للتأمين توفيق: تواجد ميدانى للقيادات ومتابعة تنفيذ الخطط الأمنية    ملامح الثورة الصحية فى 2026    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة عين شمس تستضيف لجنة منبثقة من قطاع طب الأسنان بالمجلس الأعلى للجامعات    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    خالد الجندي: القبر مرحلة في الطريق لا نهاية الرحلة    حقيقة تبكير صرف معاشات يناير 2026 بسبب إجازة البنوك    الأهلي يواجه المقاولون العرب.. معركة حاسمة في كأس عاصمة مصر    السيطرة على انفجار خط المياه بطريق النصر بمدينة الشهداء فى المنوفية    أمين البحوث الإسلامية يتفقّد منطقة الوعظ ولجنة الفتوى والمعرض الدائم للكتاب بالمنوفية    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    نسور قرطاج أمام اختبار لا يقبل الخطأ.. تفاصيل مواجهة تونس وتنزانيا الحاسمة في كأس أمم إفريقيا 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص كلمة شيخ الأزهر أمام جامعة مونستر الألمانية

جاء نص كلمة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، بجامعة مونستر أمام أعضاء هيئة التدريس وطلاب الجامعة.كالتالى " سِيَادَة الأُسْتَاذَة الدُّكتُور/ أورسولا نيليس الموقَّرة رئيس جامعة مونستر السَّادَةُ العُلَمَاء أَعضَاء هَيْئَة التَّدْرِيس البَنَات والأبنَاء مِنْ طالِبَات وطُلَّاب الجَامِعَة السَّلاَمُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبرَكَاتُهأُحَيِّيكُم جَمِيعًا، وأتقَدَّم بِخَالِص الشُّكْر والتَّقدِير إلى أ.د/ نيليس لتكرمها بِدَعوَتى للمُشارَكة فى هذا المُلتقَى العِلْمِيِّ، والتحَدُّث إِليْكُم والاسْتِمَاع مِنكُم، حَوْلَ أَخْطَر قَضِيَّة تأخذ بخناق عالَمنا المُعَاصِر، وتَتحَدَّى كُل إِنجَازَاته الحضَاريَّة، بَل تكَاد تُلْقِى بِهَا فى مَهَبِّ الرِّيح، هَذِه القَضيَّة هِى قضيَّة «السَّلَام» الإقلِيمِى والدَّولِيِّ، وحِمَايَةِ الحضَارات الإِنسْانيَّة مِمَّا يُتربَّص بِهَا مِنْ مَخَاطِر عَدِيدَة، على رأسها الإِرهَاب العَابِر للقَارَّات، والَّذى إنْ تُرِكَ يَنْمُو ويَقْوَى فإنَّ النَّتيجَة الحَتْمِيَّةَ هِى «عَودة البَشَرِيَّة كُلها إلى حَالَة مِن الهَمَجِيَّة والفَوضَى، رُبَّمَا لَا يَعْرِفُ التِّاريخ لهَا مَثِيلًا مِنْ قَبْل».
وَاسْمَحُوا لِى أيُّهَا السَّادَة العُلَمَاء والمُفَكِّرُون، أَنْ أَطْرَح رُؤيَتِى فى هذا المَوضُوع بأسلُوب غير تقليديِّ، وَهِى رُؤيَة تكَوَّنَت لَدى من انشِغالى بقَضيَّة البَحْث عَن «السَّلَام»، الَّذِى افتَقدْتُه طَويلًا، خَاصَّةٍ فى السَّنَوات الأَخيرة الَّتى أصْبَحَت فيهَا شَرْقنا العَربى مَسْرَحًا يَوميًّا لِلدِّمَاء والدَّمَار والمَوت والخَرَاب.
إنَّ المُتحَدِّث الَّذِى يَقِفُ بَين أيديكم –أيها السادة - يُمَثِّل جِيلًا كَامِلًا، قَد لَا أَعْدُو الحَقِيقَة لَوْ قُلْت إنَّهُ لَمْ يَنْعَم بالسَّلَام حِينًا، إلَّا كرت عَليه الخطوب والحُروب أحْيَانًا كَثيرَةً، وذَلِكَ فى غَيْرِ مَا سَبَب مَعْقُول ولَا مَنطِق مَقبُول لَقَدْ شَهِدتُ، وأنا طِفْلٌ لَمْ أُكمِل العَاشِرةَ بَعدُ، العُدوَانَ الثُّلَاثِى عَلَى مِصْر عَام 1956، وعَانَيتُ مع أقْرَانِى مِنْ صُوَر الفَزَع والرُّعبَ مَا لا أُريد أنْ أسْتَعيدُه فى ذاكِرَتى وأنَا فى العَقد السَّابِع من عُمْرى الآن، وَلَمْ تَمُرّ أعوامٌ عَشْرٌ حَتَّى دَهمَتنا حَرب 1967، وعِشْنَا بَعْدهَا سَنوات خَمْسًا فى أجْوَاء خَانِقة ثَقِيلَة مُحْبِطة، فَقَد ضَاعَت سَيْنِاء بأكمَلهَا فى طَرْفَة عَيْنٍ، وأصْبَح الخَطَر على الأبْوَاب، وعِشْنَا اقتِصَاد حَرب لَا يَكَاد يُلَبِّى الحَاجَات الضَّرُورِيَّة، وإنْ أَنْسَى لَا أَنْسَى تَدْمِير مَدْرَسَةٍ عَلى كُلّ مَن فِيهَا مِنْ التَّلَامِيذ مِن البَنَاتِ والبَنين.
ثُمَّ جَاءَت حَرْبُ التَّحْريرِ عَام 1973، وكَان لهَا مَذَاقٌ مُختَلِفٌ هَذِه المَرَّة، عَرفْنَا مَعَهُ لأَوَّل مَرَّة مَعْنَى الانتِصَار وزَهْوَ اسْتِردَادِ الكَرَامَةِ.
وظَنَّنَا بَعد ذَلِكَ أنَّ الشَّرق العَرَبى دَخَل بِالفِعْلِ مَرْحلَةَ الاسْتِقرَار والتَّنمِيَةِ الشَّامِلَةِ، واللَّحَاق بقِطَار التَّقَدُّمِ والسَّلَامِ والرَّخَاء، غَيْرَ أنَّه سُرعَان مَا أظلتنا حُروب جَدِيدَة مِنْ نَوعٍ آخَر، وبِنظَريَّات حَدِيثَة، لَا يَتوجَّه الصِّرَاع المُسَلَّح فِيهَا إلى عَدو خَارجِيِّ، بَل يَرتَدُّ إلَى الدَّاخِل بَيْنَ أبنَاء الوَطَن الوَاحِد والشَّعْب الوَاحِد، بَعد أَنْ تُمَهَّد الأرض وتُفْرَشُ بِبُؤَر التَّوَتُّر المَذْهَبِيِّ، والنِّزَاع العِرْقِى والطِّائِفيِّ، وتُصَدِّرَ الأسْلِحَةُ لِأطْرَاف الصِّراع، لِتَبْدَأ بَعْد ذَلِكَ حُرَوبٌ ضَارِيَةٌ تَأتِى عَلَى الأَخضَر واليَابِس.
ويُحَارُ العَقْلُ السَّوِى فى البَحْثِ عَنْ سَبَب واحِد مَنطِقِيّ، لِهَذا الدَّمَار الَّذى حَلَّ بأغْلَب دول المَنْطِقَة، فالتَّخَلُّص مِنَ الأنظِمَة الدِّيكتَاتُوريَّة لَا يتطَلَّب قَصْف الشُّعُوب الآمِنَة بالطَّائِرات، وهَدْمَ البُيُوتِ عَلَى رُؤوسهم ورؤوس نِسَائهم وأطفَالهم، والطَّوائِف العِرقِيَّة والمَذْهَبيَّة طَالَمَا تعَايشَت فى هَذِهِ المَنْطِقَة فى أمَانٍ وسَلَام دهرًا طويلاً، والأديَانُ والمَذَاهِبُ لَيْسَت وَلِيدَة اليَوم، وإنَّمَا هِى قَديمَة قِدَم هَذِهِ الأديَان والمَذَاهِب، وَقَد عَاشَت هِى الأُخرَى فى سَلَام تَحْت ظِلَال الحَضَارة الإِسْلَامِيَّة، لَمْ تُرزأ فى مُعتَقداتها، وَلَا مُقدَّرَاتها، بَلْ كانَت عُنْصر ثَراء وتَمَاسُك فى بنيَان المُجْتَمَع ولُحْمَته ونَسِيجِه المُشْتَرك.كَمَا يُحَارُ العَقْل فى تَفْسِيرِ تَزامُن انْدِلَاع هَذِه الحُروب فى مَنْطِقَة وَاحِدة، وَبينَ أبنَاء الشَّعب الوَاحِد؛ دُونَ سَائِر الشُّعُوب عَلَى وَجْه الأرْض!!.
وَقَد وَضَعْتُ خَريطَةَ العَالَمِ مَرَّة أَمَامِي، وَرُحْتُ أَبْحَث بَين قارَّاتها عَن مَنْطِقَة أَسْمَع فيها قَعْقَعة السِّلَاح، أو أرَى شَلَّالَات الدِّمَاء، أو أتابع طَوابِير الفَارِّين والهَائمين عَلَى وجُوههم فى الصَّحَراء تَحت الثُّلُوج والأمْطَار بِلَا مَأوى ولَا غِذَاءٍ ولَا دَوَاء، فَلَمْ أَجِد مَسْرَحًا لِهَذِه المَآسِى غَيْرَ الحِزَام العَربى والإسْلَاميِّ.وتسَاءَلتُ هَل كَانَت مَنْطِقَتُنا تَمُرّ بِظُروفٍ أَو تَغيُّرَات تَفرِض عَلَيْهَا حُروبًا كَتِلَكَ الَّتى بَدأت ولَا نَدرِى مَتَى تَنْتَهِي؟ وَهَل الثَّورَةُ عَلَى نِظَام مِنْ أنظِمَة الحُكْم فى عَصْرنا هَذا يُشْعِلُ فى البِلَاد حُروبًا داخِليَّة لأَعوامٍ عِدَّةٍ لَا يَتَوقَّف فيهَا شَلَّال الدَّم يَومًا أو بعض يَوم؟! إلى أَسْئِلَة كَثيرَة تَبحَث حَتَّى الآن عَنْ إِجَابَة مَنطِقيَّة فَلَا تَجِد، واليَقِين الوَحِيد الَّذى اصْطَحَبتُه مَعِى فى خِضَمِّ هَذِه الأَسْئِلَة الحَيْرَى، أنَّ الإِسْلَام –أَو الأديَان– لَا يُمْكِن بِحَالٍ مِنْ الأَحْوَال أَنْ يكُون مِنْ ورَاء هَذا الجَحِيم الَّذى انْدَلَع وفَقَدَ السَّيْطَرة عَلَيْه، وإنْ كَان المُسْتَفيدُون مِن ِهَذِه الحُرُوب قَد بَرعُوا فى اسْتِغْلَال الدِّين كَوَقُود يَضْمَن اشْتِعَال الحَرب واسْتِمْرَار الخَرَاب والدَّمَار. وَلَا أُرِيد –أيُّهَا السَّادَة الأَكَادِيميُّون العُلَمَاء – أنَّ أُطِيل عَلَيْكُم فى سَرْدِ هَذِه الشَّوَاهِد المَأسَاويَّة الَّتِى تَعيشهَا مَنْطِقَة الشَّرْق الأَوسَط، فَأنْتُم تَعْلَمُونهَا، رُبَّمَا بِأعْمَق وأدَقّ مِمَّا أَعْلَم، وَلَكِن أُريد أنْ أَقُول إنَّه لَيْسَ صَحِيحًا أَنْ يَتوَجَّه بَحْثُنَا عَنْ أَسْبَاب السَّلَام المَفْقُود فى تعَالِيم الأديَان السَّمَاويَّة، وإنَّمَا يَجِب البَحْث عَنْهُ فى الظُّرُوف السِّيَاسِيَّة وتضاربهَا إِقْلِيميًّا وَدَوليًّا، وسِيَاسَات الهَيْمَنَة العَالَمِيَّة.
وفى المَذَاهِب الاقتِصَادِيَّة المُنْفَلِتَة مِنْ ضَوَابِط الأَخْلَاق، والَّتِى لَا يَجِد دُعاتهَا وفَلاسِفَتهَا ومنظروهَا أى حَرَجٍ فى أنْ تَسْعَد قِلَّةٌ مِنْ البَشر عَلَى حِسَاب الكَثرة الكَاثرة مِنْهُم، وأنْ يُكرّس الغِنَى والثَّرَاء والعِلْم والتَّقَدُّم والرَّخَاء فى الشَّمَال، ويُكَدَّس الفَقْر والمَرض والجَهْل والبُؤس فى الجَنُوب، يَجِب أنْ نَبْحَث عَنْ أسْبَاب غِيَاب السَّلَام فى هَذَا الخَلَل المُقَنَّن بَيْنَ ضِفتى المُتَوسّط، بَل نَبْحَث عنه فى سُلُوك الحضَارات الكُبْرَى المُعَاصِرة الَّتِى لَا تَجِد بأسًا فى اخْتِراع عَدو مَوهُوم، تُدِير عَلَيْه رَحَى الحَرب وتُصَدِّر لَه الصِّرَاع بَعِيدًا عن أراضيها حَتَّى تظفر هِى بِوحدة الصَّف وبِسَلامها الاجتِمَاعى الدَّاخِلِى فى مُوَاجهَة عَدوِّها الخَارِجي.
إنَّ هَذِه التَّعقِيدَات الدَّولِيَّة، الَّتِى أَشَرْتُ إلَى بعض انعكَاسَاتها السَّلْبِيَّة، مَسْؤُولَة عَنْ كَثير أو قَلِيل مِنْ مُعَانَاة العَالَم العَرَبِى والعَالَم الإِسْلَامِى الآن، وَبِإمكَان مُؤَسَّسَة الأُمَم المُتَّحِدَة، الَّتِى أُنْشِئَت مِنْ أَجْلِ حِفْظِ الأَمْن والسَّلَام الدَّولِيَين، أنْ تسْهم فى احتِواء مُشْكِلَات الشَّرق الأَوسَط وتُحَاصِر نِيرَانه وتنقِذ الأرَامِل والثَّكَالَى واليَتَامَى الَّذين لَا نَاقَةَ لَهُم ولَا جَمْل مِن وَرَاءِ هَذا الصِّرَاع.
أَيُّهَا السَّادَة!أَرْجُو أَنْ تَعْذُرُونِى فى صَراحَتِى هَذِه الَّتِى رُبَّمَا تَجَاوزَت المُتَعَارَف عَلَيْه فى هَذِه المُخَاطَبَات، وعُذْرِى أَنَّنِى أَتَحدَّث إلَى زُمَلَاء وَعُلَمَاء لَا أَعْتَقِد أنَّ مَنْهَجهُم فى بَحْث القَضَايَا الشَّائِكَة يَسْمَح بِانتِقَاء بَعض الفُروض وإغفَال البَعض الآخَر فى اسْتِخْلَاص النَّتَائِج الصَّحِيْحَة.
مِن هُنَا وَجَبَت المُصَارَحة، وهَذا الَّذى صَارَحتكُم بِه هُو رأى الغَالبيَّة السَّاحِقَة مِن المُثَقَّفِين والمُفَكِّرِين والمُحَلِّلِين فى الشَّرق، وتُقَدِّمَه وسَائِل الإِعْلَام وشَبَكَات التَّواصُل الاجتِمَاعِى وكأنَّه أَمْرٌ ثَابِتٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْه.أمَّا عَن مُقَومَات السَّلَام فى الأدْيَان، فَإِنَّ هَذَا المَوضُوع لَا أْسَتَطِيع اليَوم أَنْ أَزِيد فِيه كَلِمَة وَاحِدة عَمَّا قُلْتُه وكَرَّرتُه فى مُؤتَمَرات حوار الأَدْيَان فى عَواصِم أُوروبَا وأمريكَا وآسيَا، على مَدَى خَمْسَة عَشْر عَامًا خَلَت، وحَتَّى لَا أُرْهِق مَسَامِعَكُم اسْمَحُوا أَنْ أُلَخِّص عَقِيْدَتِى فى هَذَا المَوضُوع، مِن خِلَال الدِّين الَّذى أَنْتَسِبُ إِلَيْه، وَأُؤمِن بِسَمَاحَته وَرَحْمَته للعَالَمِين.
فَأوَّلًا: إِنَّ الأدْيَان السَّمَاويَّة مَا نَزَلَت إلَّا لترسِم للإنْسَان طَريق السَّعَادَة فى الدُّنيَا والآخِرة، وتُعَلِّمَه قِيَم الرَّحْمَة والحَقّ والخَيْر، وأنَّ الله كَرَّمَه عَلَى سَائِر الكَائِنَات الأُخْرى، واتَّخَذَه خَلِيفَة لَهُ عَلَى الأرْض، وَحَرَّم دَمه ومَاله وعِرْضه.. وإذَا سَمِعْتُم أو قَرَأتُم أَنَّ دِينًا مِن الأدْيَان السَّمَاويَّة سَمح بِإراقة الدِّمَاء واغْتِيَال الحُقُوق فَاعْلَمُوا أَنَّ هَا هُنَا تَدْلِيْسًا فى تَصْوير حَقِيْقَة هَذَا الدِّين.
ثَانِيًا: نُؤْمِن نَحْنُ المُسْلِمين بِأَنَّ الإسْلَام لَيْسَ دِينًا مُنْفَصِلًا عَن الأَدْيَان السَّمَاويَّة السَّابِقَة عَلَيْه كَالمَسِيْحِيَّة واليَهُودِيَّة والإبْرَاهِيمِيَّة، بَل يُعَلِّمُنَا القُرآن أَنَّ الدِّين الإِلَهِى دِيْن وَاحِد اسْمُه الإسْلَام، بِمَعْنَى: الخُضُوع لله تعَالَى وعِبَادَته، وإسْلَام الوَجْه إِلَيْه، وَأَنَّ مَا يُسَمَّى بِالأدْيَان فى مُحَادثَاتنا هُوَ: رِسَالَات إِلَهِيَّة تُشَكِّل حَلَقَات مُتَّصِلَة فى سِلْسِلَة الدِّين الوَاحِد.
وَمِن هُنَا وَجَدْنَا الإسْلَام يَتَّفِق مَع الرِّسَالَات السَّابِقَة عَلِيْه فى أُصُول العَقَائِد وأُمَّهَات الأَخْلَاق، ويَرْتَبِط بها ارتباطًا عضويًّا، فَالإِيمَان بالأنبياء والرُّسُل السَّابِقِين وبِمَا أُنْزِل عَلَيْهم مِن الكُتُب السَّمَاويَّة جزء لا يتجزأ من إيمان المسلم بِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-وبالقُرآن.
بَلْ يُحَدِّثُنا القُرآن بِأن مَا شرعه الله من الدِّين لِمُحَمَّدٍ هَوُ نَفْس مَا شرعه لِنُوح وإبرَاهيم ومُوسَى وعِيْسَى عَلَيْهم جَمِيْعًا أفضَل الصَّلَاة والسَّلَام، وهَذَا مَا يُفَسِّر لنَا انفِتَاح الإسْلَام عَلَى الأدْيَان السَّمَاويَّة السَّابِقَة عَلَيْه وبِخَاصَّةٍ: المَسِيْحِيَّة، مِمَّا نَعْلَمُه جَمِيْعًا وَلَا نَحْتَاجُ إلى بيَانه لظُهوره ووضُوحه.
ثَالِثًا: فى القُرآن حَقَائِق ثَلَاث يَترتَّب بعضها على بعض، تتعلَّق بِنَظْرة الإسْلَام للبَشَريَّة، وتجدِيده لِنُوع العَلَاقَة الَّتى يَجِبُ عَلَى المُسْلِمين أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهَا فى مُعَامَلاتهم مع غيرهم: الحَقِيْقَة الأولى: هِى أنَّ مَشِيْئَة الله فى خَلْقِه قَضَت أنْ يَخلقهم مُختَلِفين فى الدِّين والعَقِيدَة والَّلون والُّلغة والجِنس، وأنَّ هَذا الاختِلاف لا يتبَدَّل وَلَا يَزُول، والحَقيقة الثانية المترتبة ترتبًا منطقيًا على ذلك هى أنه لا مفر –والحالة هذه – من أن تكون العلاقة بين هذه القبائل والشعوب هى علاقة «التعارف» التى تعني: التعاون المتبادل، وقد نص القرآن على هذه العلاقة وعبَّر عنها بلفظة «التعارف» فى الآية (13) من السورة (49)، والعلاقة بين هاتين الحقيقتين علاقة تلازم منطقى صارم، لأنه لا يُتصور أن يخلق الله الناس مختلفين فى الأديان، وفى الوقت نفسه يبيح لهم أن تتحول العلاقة بينهم إلى علاقة صراع أو قتال أو علاقة حرب، فهذا تناقض بين حرية التعدد فى المعتقد، ومصادرة هذا الحق فى حالة القتال الذى ينتهى إلى حمل الناس على عقيدة واحدة.
وهنا تظهر حقيقة تاريخية هى أن المسلمين لم يشهروا السيوف فى وجوه غيرهم بسبب معتقداتهم أو أديانهم، اللهم إلا إذا تحول الغير إلى عدو يقاتل المسلمين، فهاهنا القتال بسبب الاعتداء وليس بسبب الدين..
أما الحقيقة الثالثة التى ترتبط بالحقيقتين السابقتين ارتباط النتيجة بالمقدمات فهى حرية الاعتقاد، وتكفل الإسلام بحمايتها، ولعلى أذكِّر بأمر تحفظونه عن ظهر قلب حين أذكركم بالآيتين:?لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَى، فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ?، وحديث محمد صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَرِهَ الْإِسْلَامَ مِنْ يَهُودِى وَنَصْرَانِيٍّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ عَنْ دِينِهِ».
رابعًا: يقرر القرآن أن الله سبحانه ما أرسل محمد إلا رحمة للعالمين، وكلمة العالمين أوسع بكثير من كلمة المسلمين، بل هى فى الفلسفة الإسلامية أعمّ من عالم الإنسان، حيث تشمَل عَالَم الحيوان والنبات والجماد،.
جاء فى القرآن الكريم خطابًا لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وقال محمد صلى الله عليه وسلم مخاطبًا الناس جميعًا: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» ويضيق المقام بالطبع عن السلوم المذهل الذى كان يسلكه نبى الإسلام مع هذه العوالم، وأكتفى بالإشارة -فقط- إلى تعاليمه فى حرمة قتل الكبير والضعيف والمرأة والصبى والأعم فى جيش الأعداء، وحرمة قتل حيواناتهم، إلا لضرورة الطعام وعلى قدرها، وحرمة هدم بيوتهم وتخريبها وقلع نباتهم وتفريق نحلهم.
والعجيب أن يأتينا درس الرحمة بالإنسان والحيوان والنبات والجماد من موطن لا تُستاغ فيه الرحمة فى حكم العادة، وهو حالة الحرب والعداء التى يُستباح فيها من القسوة ما لا يستباح فى غيرها. ولكنها «الرحمة المهداة» التى بسطت رداءها على العالمين وكان للعدو منها نصيب.. هذا النبى الرحيم بالحيوان أخبرنا أن امرأة دخلت النار فى هِرَّة حبستها، فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض.
وأخبر أن رجلاً سقى كلبًا فى يوم حر شديد فغفر الله له وأدخله الجنة..خامسًا: لم تقتصر توجيهات القرآن فى ربط الإسلام بالسلام على أصل الرحمة، ويترك المسلمين وشأنهم يتحلون بهذا الخلق الإنسانى الرفيع أو يتخلون عنه مضطرين أو مختارين، وإنما كثف من لفظ «السلام» ومفهومه فى القرآن بشكل لافت للنظر، حتى أصبح الإسلام والسلام وجهين لعملة واحدة إن صح هذا التعبير، ويكفى للتدليل العاجل على ذلك أن نعلم أن كلمة «السلام» بمشتقاتها وردت فى القرآن مائة وأربعين مرة مقابل كلمة «الحرب» التى وردت بمشتقاتها (6) فقط، ومن هنا لم يكن مستغربًا أن يقرر الإسلام مبدأ «السلام» كأصل فى معاملة المسلمين وعلاقاتهم بغير المسلمين، وأن فلسفة القرآن لا مكان فيها لعلاقات الصراع والقتال مع المسالمين من غير المسلمين.
أيُّهَا السَّادة العُلَمَاء! والآن كيف ننزل بمفهوم السلام فى الأديان إلى هذا الواقع المعقد؟ والإجابة التى أختم بها كلمتى هي: لابُدَّ أوَّلًا من صنع السلام بين رجال الأديان أنفسهم، وليس بين رجال الدين الواحد، وهذه معضلة تحتاج إلى حوار باحث عن المشتركات بين الأديان، وما أكثرها وأهمها، فمالم يتصالح رجال الأديان فيما بينهم فإنَّه لا أمل فى قدرتهم على الدَّعوة للسَّلام والتَّبْشِير به بين النَّاس، ِإِذْ فاقِدُ الشَّيء لَا يُعْطِيه..أمَّا كَيف ذَلِكَ فَهَذَا مَا أحتَاج إلى أنْ أسْمَعه من حَضَراتكُم.شُكْرًا لِحُسْنِ اسْتِمَاعكُم؛وَالسَّلاَمُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبرَكَاتُه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.