يتخطّى دونالد ترامب الخطوط الحمر بسرعة فائقة، لكن شعبيته لدى الناخبين الجمهوريين تسجّل مستوى مرتفعًا جدًا. فمعظم استطلاعات الرأى تضعه فى الصدارة مع نسبة 35٪ من الأصوات على صعيد البلاد، وذلك بفارق 19٪ عن أقرب منافسيه. كلما كان أكثر فظاظة وتهجّمًا، ازداد حبّهم له. إنه يستغلّ بنجاح مخاوف الناس من الآخر مستخدمًا فى سبيل ذلك العنصرية والتعصّب كأدوات، محاكيًا بذلك الاستراتيجية التى اعتمدها رسّام نمساوى انتُخِب رئيسًا على ألمانيا عن طريق عملية ديمقراطية، فكانت النتائج كارثية. يسير فى الاتجاه المظلم مستغلًا فى ذلك مخاوف قاعدته العريضة من الناخبين التى تتألف فى شكل خاص من غير الجامعيين، فهؤلاء الناخبون يشعرون بأن المؤسسة السياسية الأمريكية تخلّت عنهم. يستخدم لغتهم، وهم يتوهّمون خطأً أن هذا الملياردير الذى يتباهى بثرواته وعقاراته الفخمة، يتحدث باسمهم. يُخيَّل إليهم أنه سيعيد إلى أمريكا عظمتها، على الرغم من أنه يقوّض مكانة بلاده المعنوية كلما فتح فمه. لقد تبين أن الإعلام الأمريكى كان على خطأ عندما استخفّ فى البداية بترامب معتبرًا أنه مجرد مهرج، وظاهرة عابرة. والمعلقون الذين سخروا منه فى السابق هم الآن فى حيرة من أمرهم؛ وبعضهم شديدو القلق. ويعتبره كبار السياسيين فى حزبه مصدر إحراج يشوّه سمعة الجمهوريين إنما أيضًا سمعة أمريكا بالفرشاة الملطّخة نفسها، لكن قلة تتحدث جهارًا. السيناتور ليندسى جراهام استثناء بارز فى هذا المجال. فردًا على الدعوة التى أطلقها ترامب لمنع جميع المسلمين من دخول الولاياتالمتحدة، حث جراهام الحزب الجمهورى أن يقول لترامب بأن «يذهب إلى الجحيم»، مضيفًا: «إنه رجل داعش لهذا العام، متعصّب دينى عنصرى يكره الآخر». واعتبر أن ترامب «لا يمثّل القيم التى يحارب من أجلها الرجال والنساء فى الجيش الأمريكي». لكن ترامب وضع الحزب الجمهورى فى حيرة مهدّدًا بالترشح بصفة مستقل. فمن شأن تقسيم الأصوات أن يقدّم هدية لمصلحة هيلارى كلينتون أو أى مرشّح آخر يختاره الديمقراطيون. ربما تُكتَم أصوات المرشحين الرئاسيين الجمهوريين، لكن ما يحيّرني، لا بل يسبب لى قلقًا شديدًا، هو الصمت المطبق للقيادات المسلمة والعربية. يتعرض 1.7 مليار مسلم حول العالم للهجوم من شخص يطمح إلى أن يكون «قائد العالم الحر». يعرب الأمريكيون المسلمون عن شعورهم بالخوف. والخوف من الإسلام أو ما يُعرَف بالإسلاموفوبيا آخذ فى الارتفاع. وصف رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون كلام ترامب بأنه «مسبّب للانقسام، وغير مفيد، وخاطئ بكل بساطة». وغرّد رئيس الوزراء الفرنسى مانويل فالس: «يؤجّج ترامب، شأنه فى ذلك شأن أشخاص آخرين، الكراهية: عدونا الوحيد هو الإسلام المتطرف». وقال وزير الخارجية الكندى ستيفان ديون: «هذا أمر لا يمكننا القبول به فى كندا... نحن أبعد ما يكون عن الكلام الذى سمعناه للتو فى الولاياتالمتحدة». وأطلق البريطانيون عريضة لمنع ترامب من دخول المملكة المتحدة، وقد حصدت تلك العريضة على أكثر من نصف مليون توقيع، ما يقتضى مناقشتها فى البرلمان. أما القادة العرب فقد التزموا الصمت المطبق. فضلا عن رجال الأعمال العرب الذين لهم تعاملات مع ترامب، ما عدا استثناءات قليلة، إما يصمّون آذانهم ويغمضون عيونهم وإما أعربوا عن آمالهم بأن يعيد ترامب النظر فى آرائه. لا بد من أن هذا الرجل العنصرى الذى يصوّب أنظاره على الهدف الأساسي، يرتعد لسماعه هذا الكلام! إذا وضعنا الأرباح جانبًا، كيف يمكن لمن يتمتع بضمير حى أن يستمر فى التعامل مع هذا الشخص أو مع شركاته، فترامب هو هو ولا فرق بينه وبين الأعمال التى يمثّلها؟ أكرّر ما قلته للصحفيين فى الأيام الماضية، لو جاء إلى مكتبى لما سمحت له بالدخول. كيف يجرؤ على زيادة حسابه المصرفى من خلال المشاريع التى يملكها فى بلدان ذات أكثرية مسلمة فى حين أنه يعمد إلى تحقير جميع المسلمين معتبرًا أنهم مشاريع إرهابيين؟! فى مختلف الأحوال، من الخطأ الاعتقاد بأنه يمكن الحفاظ على أمن الولاياتالمتحدة عبر منع السياسيين والسياح ورجال الأعمال والمستثمرين المسلمين، إلخ. من دخولها. ومن يستطع أن يلوم المسلمين إذا فكّروا على الشكل التالي: «إذا كنتم لا تريدوننا، فأنتم لا تستحقون إذًا أموالنا». قد يكون من الأجدى بترامب وأنصاره أن يتنبّهوا إلى أنه لدول الخليج استثمارات واسعة فى الولاياتالمتحدة. فعلى سبيل المثال، تعهّدت قطر مؤخرًا باستثمار 35 مليار دولار أمريكى فى الأعوام الخمسة المقبلة. وبحسب بيانات صادرة عن غرفة التجارة الأمريكية العربية الوطنية، بلغ مجموع صادرات السلع الأمريكية إلى الدول العربية الاثنتين والعشرين، 70 مليار دولار فى عام 2013. تجاوزت قيمة التجارة الأمريكية مع اندونيسيا التى تضم العدد الأكبر من السكان المسلمين، 27 مليار دولار العام الماضي؛ وتبلغ حصة باكستان 16٪ من مجموع التجارة الأمريكية؛ وتقدّر الصادرات إلى بلدان مثل أذربيجان وتركيا وبلدان أوروبا الشرقية ذات الأكثرية المسلمة، بمليارات الدولارات سنويًا. العام الفائت، بلغت قيمة سندات الخزينة الأمريكية التى تملكها البلدان التى تتألف الغالبية الساحقة من سكانها من المسلمين - السعودية والإمارات والكويت والبحرين وعُمان وقطر والجزائر وليبيا ونيجيريا وإيران - فضلًا عن الإكوادور وفنزويلا والجابون، 262 مليار دولار أمريكي. علاوةً على ذلك، كشفت مجلة «فورين بوليسي» أنه خلال سنوات أوباما الخمس الأولى فى سدة الرئاسة، باعت الولاياتالمتحدة طائرات مقاتلة وأسلحة وخدمات عسكرية بقيمة 64 مليار دولار إلى دول مجلس التعاون الخليجى وحدها، وأنه منذ عام 2010، ارتفعت المشتريات بنسبة 70٪. تشمل الدول العربية التى تصدّر إليها الولاياتالمتحدة بضائعها، مصر والأردن ولبنان والعراق. وقد تجاوزت المبيعات إلى باكستان منذ عام 2001، مليارَى دولار أمريكى فضلًا عن المشتريات ذات التمويل المشترك. ماذا يحلّ بنا؟ نحن المسلمين مستهدفون. عقيدتنا الدينية تتعرّض للهجوم. غير المسلمين حول العالم مستاؤون جدًا ويرفعون الصوت استنكارًا. أما نحن فنتصرّف مثل حملان تُساق إلى الذبح - ولو تُرِكت لترامب حرية التصرف، أظن أنه لن يتوانى عن ذبحنا. هل نسعى إلى الحفاظ على علاقات طيّبة معه تحسّبًا لاحتمال وصوله إلى البيت الأبيض؟ إن كان الأمر كذلك، فهذا السلوك مشين. عندما تُستباح كرامتنا، ونبدأ بالتزلّف لاسترضاء الآخرين، نستحقّ كل ما يمكن أن يحل بنا من فظائع. لقد هدّد ترامب بإغلاق المساجد، ووضْع قاعدة بيانات عن المسلمين الأمريكيين، وأعلن عن دعمه لإنشاء معسكرات اعتقال كما فى الحرب العالمية الثانية، وإعادة تطبيق ما يُعرَف بالإيهام بالغرق والذى يُستخدَم فى تعذيب المعتقلين. والآن يريد منع جميع المسلمين من دخول بلاده، متهرّبًا من الإجابة عن الأسئلة حول الشئون اللوجستية والسبيل إلى تحقيق ذلك فى حين أن معظم جوازات السفر لا تشير إلى الانتماء الدينى لحامليها. هل سيتم استجوابنا فى المطارات الأمريكية، أو أسوأ من ذلك، تعذيبنا حتى نعترف بمعتقداتنا الدينية؟ لا يملك ترامب الجواب. فى الواقع، يطلق التصريحات السخيفة يمنةً ويسرةً، لكنه يرفض الخوض فى التفاصيل الجوهرية. إنه أشبه بالمراسلين الذين لا يسمحون للوقائع بأن تُفسد عليهم سبقًا جيدًا. لندع الحجج الأخلاقية المتعلقة بحقوق الإنسان جانبًا لبعض الوقت؛ الحقيقة هى أن الحل الذى يقترحه ترامب ليس منطقيًا على الإطلاق. ولنستعرض الوقائع: * نحو خُمس إرهابيى «داعش» هم إما مواطنين وإما مقيمين شرعيين فى الدول الغربية. * أحد مطلقى النار فى سان برناردينو أمريكى الجنسية. * مطلق النار فى فورت هود من الجنسية الأمريكية. * معظم منفّذى الاعتداءات فى باريس فرنسيون أو بلجيكيون. * منفّذو الهجمات على وسائل النقل فى لندن فى 7 يوليو 2005 هم من الجنسية البريطانية. * فى الفترة الممتدة من 2001 إلى 2013 )أحدث البيانات المتوافرة لدى مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها(، لقى 406496 أمريكيًا مصرعهم فى حوادث إطلاق نار على الأراضى الأمريكية، فى مقابل مقتل 3380 شخصًا فى هجمات إرهابية، مع الإشارة إلى أن هذا الرقم يشمل ضحايا هجمات الحادى عشر من سبتمبر. تلقّيت اتصالات هاتفية من بعض أصدقائى الرائعين فى الولاياتالمتحدة وقد سألوني، لماذا لا تحظر حكومات الدول الإسلامية ترامب من دخول بلداننا؟ لم أجد جوابًا على سؤالهم. على ضوء الخطر الذى يمثّله ترامب، أود ان أحث جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامى إلى المبادرة فورًا إلى إصدار بيانات إدانة واستنكار، وأناشد جميع القادة العرب إدراج ترامب وكل من هم على صلة بحملته الانتخابية أو يتعاملون معه تجاريًا، على القائمة السوداء. إذا لم نبدِ استعدادًا للدفاع عن مصالحنا، متسلّحين بالثقة بأن ترامب سيتعثّر ويسقط قبل نهاية السباق، فقد نكون على موعد مع مفاجأة سيئة. فى هذا السياق أستشهد بما قالته راشيل مادو من قناة «إم إس إن بى سي» فى إشارةٍ إلى أن الناخبين الجمهوريين يختارون بصورة لا لبس فيها، ترامب مرشحًا لهم: «حان الوقت للاعتراف بأن هذا يحدث فعلًا... تيك توك!» دعمتُ ترامب قبل أن يكشف عن نفسيته البغيضة لأننى اعتبرت أن أمريكا بحاجة إلى رجل أعمال يعرف كيف ينعش الاقتصاد ويخلق فرص عمل. إنى آمل الآن بأن تعيّن كلينتون، فى حال انتخابها رئيسة للولايات المتحدةالأمريكية، نائب رئيس ينتمى إلى عالم الأعمال كى يكمّل خبرتها الجيوسياسية والدبلوماسية؛ نائب رئيس يجعل جميع الأمريكيين يشعرون بالفخر والاعتزاز.