إن كنت في مقالي السابق طالبت الجميع- ولا أزال- بالصمت كي نهدأ، ونعمل، ونقف علي أقدامنا من جديد، فلا يعني هذا أن نتعامي عن أصابع الفشل والعجز والإهمال والفساد، بالذات في القضايا المصيرية الخطيرة التي تتطلب النقد البَناء، واختراع الحلول الشافية بواسطة إخصائيين ميدانيين يعرفون بيت الداء، وسر الدواء.. خبراء حقيقيين وليسوا محتالين ككثير من ضيوف الفضائيات حملة الألقاب المزيفة.. كما أنني بالتأكيد لا أفضل الصمت علي الترويج للإنجازات، والإشادة بأصحابها عرفاناً وتشجيعاً لهم وتحفيزاً علي الاقتداء بهم.. فهذا هو الدور الأصيل للإعلام، ولو قام به علي أكمل وجه لا يكون مستوجب الحمد والثناء فلا شكر علي واجب، لكن الغالبية العظمي من إعلامنا عوجاء.. عرجاء.. لا نفع منها ولا رجاء، لا تصمت عن النباح في أي فضاء.. إعلام النحتاية استسهل اصطياد الأخبار من علي الفيس بوك مثله مثل أي 'فريند'، بلا مراسلين، بلا مصورين، بلا وجع قلب، ومصاريف، وبهدلة في الحر، والمطر، والزحمة.. سلك الفاشلون الطريق الأسهل فراحوا بخُبثٍ يطرقون ضعف البعض تجاه الجنس، والمخدرات، والرغبة في معرفة الغيب مستغلين طمع ملاك القنوات أو حاجتهم للمال، فتحولوا إلي مندوبين للرعاة والمعلنين مهمتهم حشو الشاشات بمقاطع الشذوذ، والتحرش، والاغتصاب، والتمثيل بالجثث، وزنا المحارم، والقِوادة، والدعارة، والأعمال السفلية.. وصولاً إلي انتهاك الحرمات، وفضح الخصوصيات، والتهديد والوعيد بأشر ما هو آت من قبل كائنة مُرائية تبث سمومها من تحت أقنعة الخير.. زامرة الحي التي طالما أطربت الحمقي بصخيب نشازها حتي الأمس القريب. موضوع يمكن تغطيته في 30 دقيقة يسهر أمامه الناس حتي الفجر.. وفجأة تشتعل الحلقة بالبذاءات والإيحاءات والسب الصريح بأحط النعات، وتتناقلها وسائل التواصل فتحصل علي أعلي المشاهدات، مما يغري مذيعين آخرين بتناول نفس الواقعة في سهرات تالية ليستفيدوا من ارتفاع نسب المشاهدة!! هذا إلي جانب البرامج بل المحطات المُسَخَّرة من بابها للمسابقات الساذجة، والأفلام المسروقة، والهز الرقيع، والهذي الفقيع.. وهكذا كفر الكثير بحرية الفكر والإبداع، وتعالت المطالبات بالانقلاب علي السلطة الرابعة. وفي الكوارث الأخيرة وتحديداً أزمة السيول والأمطار، ثم حادثة سقوط الطائرة الروسية في سيناء رأينا إعلاماً مُهجَّناً من ترهات النكسة، وفكاهات 'الصحاف' وزير إعلام العراق إبان الغزو الأمريكي عام 2003، ومحيي مصطلح 'العلوج' الأشهر.. فالإعلام يجهل الحقيقة، وفي الوقت نفسه يأبي الصمت.. فيبدأ في التخبط وتوزيع الاتهامات جزافاً، والتشكيك والحشد العشوائي ضد ومع، ومن ثم تشتيت الأفكار، وتبديل الأحكام، وإرباك المشهد بالكامل. كم غير هؤلاء الإعلاميون قناعاتهم ومواقفهم مرات ومرات خلال السنوات الخمس الماضية كحال ملايين المصريين الذين خدعتهم الأحداث.. فلماذا الآن يدعون الخبرة والحكمة والوعي ببواطن الأمور؟!! يامعشر الإعلاميين.. نصيحة لئلا تحترقوا بألسنتكم: تحلّوا بالشجاعة، وتخلّوا عن التطبيل وإعلام الصدمة والفقاعة، واهجروا مدرسة اقرا الحادثة، والست اللي أكلت دراع جوزها، والراجل اللي عض الكلب. [email protected]