أكد أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن، أندرو جيه باسيفيتش، أن الحرب صراع إرادات، وأن العزيمة وإن لم تضمن النصر فإن غيابها يُحتّم الهزيمة. وعاد بالأذهان - في مقال نشرته مجلة 'سبكتاتور' البريطانية - إلي سبعينيات القرن الثامن عشر عندما فقدت بريطانيا معظم مستعمراتها في الشمال الأمريكي لا لشيء إلا لأن الأمريكيين الثائرين اهتموا بكسب استقلالهم أكثر مما اهتم جورج الثالث ملك بريطانيا العظمي آنذاك ووزرائه بالحفاظ علي امبراطوريتهم. وأسقط باسيفيتش، علي العراق في الوقت الراهن، قائلا إنه إذا فاق اهتمام مقاتلي داعش بإقامة دولة خلافتهم اهتمام العراقيين بالحفاظ علي عراقهم، فإن مصير بلاد الرافدين معروف. وعلي غرار ما شهدته 'ساراتوجا' عام 1777، حين استطاعت قوة بدائية من الشتات الأمريكي إنزال الهزيمة بنحو 7 آلاف عسكري بريطاني نظامي، الأمر الذي أحدث فارقا في حرب الاستقلال الأمريكية - فإنه وبالقياس علي ذلك يمكن القول إن سيطرة الدواعش علي منطقة 'الرمادي' يمثل نقطة فارقة علي صعيد مستقبلها. وتابع الباحث 'ولا يختلف موقف البريطانيين في موقعة ساراتوجا عن موقف القوات العراقية في الرمادي من حيث كارثية الأداء'. ورأي باسيفيتش أن هذا الأداء المزري الذي بدت عليه القوات العراقية في معركة الرمادي إنما يعكس صورة صادقة للحُكم علي التجربة الأمريكية في العراق.. تلك التجربة التي استغرقت أكثر من عشر سنوات وانعقدت عليها آمال عريضة في بناء جيش عراقي قادر علي تأمين الداخل والتصدي لتهديدات الخارج بعد كسْر قبضة النظام الديكتاتوري- لقد فشلت التجربة بامتياز. وقال الباحث الأمريكي إن هذا الواقع يطرح سؤالا حول قدرة العراق علي البقاء كنظام ودولة واحدة متماسكة من عدمه. وأكد باسيفيتش أنه بغض النظر عن توجهات الساسة في أمريكا إزاء هذا الواقع، سواء في ذلك محاولة إخفائه، من جانب فئة أو الدعوة لتكثيف الضربات الجوية علي الدواعش لتحجيمهم وتدريب قوات عراقية وإرسال خبراء أمريكيين لتوجيههم، من جانب فئة أخري، أو حتي إرسال قوات برية، من جانب فئة ثالثة علي رأسها السيناتور الجمهوري ليندسي جراهام - بغض النظر عن كل ذلك، فإن التوجه اللازم والضروري هو التمييز بين مصير العراق وخطر داعش. وأوضح أنه لا الأمريكيون ولا الغرب عامة في وضع يؤهل للبتّ في مصير العراق، لكن في المقابل فإن أمريكا والغرب لهم مصلحة كبري في تحديد حجم خطر داعش. ورصد الباحث وجهة نظر في هذا الصدد تري أن الدواعش لا يشكلون خطرا وجوديا علي الغرب، وأنه لا يمكن مقارنة 'الداعشية' ب'النازية' أو ال'شيوعية' من حركات القرن العشرين، كما أن تنظيما كداعش لا يستطيع اجتذاب الشعوب الخليجية إلي خلافته أكثر مما استطاعت أجندة جروج بوش الابن الخاصة بالحريات الديمقراطية. وقال باسيفيتش إن التهديد الذي يفرضه داعش ذو ثلاث شعب: ثقافية وإنسانية وثالثة تتعلق بما يعرف ب 'النظام العالمي'.. ويتجلي التهديد الثقافي في عدوان الدواعش علي الآثار التاريخية، فيما يتجلي التهديد الإنساني في عدوانهم الوحشي علي ضحاياهم، أما التهديد الثالث فهو وإن تعذّر عرضه علي شاشات التلفاز علي غرار التهديدين السابقين، إلا أنه في الحقيقة أخطر التهديدات الثلاثة. وأوضح الباحث أن مكمن الخطورة هو أن داعش تسعي لتدمير نظام 'الوحدات السياسية' المكوِّنة لما يعرف ب'النظام العالمي' الذي تفتّق عنه الذهن الأوروبي الغربي قبل نحو 350 سنة في مؤتمر للسلام انعقد في مقاطعة 'ويستفاليا' الألمانية عام 1648 لإسدال الستار علي قرن من صراعات طائفية وعدم استقرار سياسي عصف بأوروبا الوسطي، وهو الذي يستند في أساسه إلي استقلال وسيادة الدول الوطنية 'الوحدات'، وبالتالي حُرمة الحدود الجغرافية لهذه الدول، ثم مبدأ توازن القوي كآلية لحماية هذا الواقع السياسي الجديد بعد ذلك أخذ هذا النظام بالتوسع تدريجياً، وأخذ ينتشر حتي قيام الأممالمتحدة كسلطة عليا لهذا النظام، ووصل إلي ما وصل إليه في وقتنا الحاضر. ورأي باسيفيتش أن سعي تنظيم داعش لتدمير وحدة النظام في كل من سورياوالعراق وطموحه إلي ما هو أبعد من ذلك، إنما هو في واقع الأمر سعي لتدمير النظام العالمي أو ما أطلق عليه الباحث اسم 'النظام الويستفالي الجديد'. وقال الباحث الأمريكي إن الردّ الغربي اللازم علي مساعي داعش يتعين أن يكون عبر تشكيل ائتلاف أممي بقيادة أمريكا وأن يكون هذا الائتلاف ملتزما بالحفاظ علي النظام العالمي، علي أن يتم إسناد دور رئيسي إلي العراق باعتباره أكثر دولة مضارة بشكل مباشر من داعش، 'لكن العراق أظهر عدم جاهزية للاضطلاع بهذا الدور'. وأضاف باسيفيتش 'أية دولة إذن هي في وضع يؤهلها لمكافحة داعش ولا تنقصها الرغبة في القيام بذلك وهي بالفعل ملتزمة بذلك؟ إن السؤال يطرح الجواب علي نفسه: الدولة هي إيران'. وتابع الباحث 'داعش يسعي لتدمير العراق، وهو مصير يراه الغرب كارثيا.. أما إيران فتسعي لضمّ العراق إلي منطقة نفوذها، وهو مصير يعتبره الغرب مؤسفا.. لكن علي أرض الواقع العالمي حيث يتعين أن يختار ساسة الدول بين بدائل قائمة بالفعل، فإن المصير الثاني أفضل من الأول'. واختتم الكاتب مقاله بالتنويه عن أن 'البديل عن استخدام إيران للاضطلاع بدور القضاء علي داعش، هو تكرار حماقات الماضي القريب وإرسال قوات برية أمريكية إلي الشرق الأوسط مرة أخري'.