رغم ما اقترفه 'أدولف هتلر' من بشائع وشنائع في حق البشرية، فإن المؤرخين لا يستطيعون بأي حال محو اسمه من صفحات التاريخ وإلا صار تاريخًا مبتورًا ومزيفًا، فهتلر هو المجرم الذي استطاع بديكتاتوريته المطلقة، وساديته الفريدة أن يعيد رسم خريطة الكرة الأرضية من جديد. ولا شك أن مثل تلك الشخصية تُعَدُ مادةً خصبةً ومُلهمة للمبدعين، وبالذات من هم علي شاكلة الفنان الإيطالي المُستَفِز 'ماوريتسيو كاتيلان' الذي صنع تمثالًا بارتفاع متر واحد، علي هيئة طفل جاثي علي ركبتيه في وضع الصلاة، ووجهه يحمل ملامح 'هتلر' حيث قام عام 2001 بعرضه في نهاية ممر طويل داخل أحد معارض 'إستوكهولم' معطيًا ظهره للجمهور، في وضعية مثيرة للفضول، إذ كان علي الزوار أن يصِلوا إلي الجانب الآخر من التمثال لاكتشاف شخصية صاحبه. وفي عام 2012 قام 'كاتيلان' بعرض التمثال بنفس الوضعية.. ولكن هذه المرة داخل أطلال مبني يُعَدُ آخر ما تبقي من حي اليهود السابق في العاصمة البولندية 'وارسو' حيث تحول هذا المبني الواقع علي مقربة من المعبد اليهودي إلي نصب تذكاري تحمل نوافذه صورًا لبعض اليهود الذين أُسِروا في هذا 'الجيتو' مابين عامي 1940 و1943 تمهيدًا لإبادتهم من قبل رجال 'هتلر'. اختار 'كاتيلان' أن يضع التمثال في نهاية الطابق الأرضي بحيث لا يستطيع الجمهور سوي المشاهدة من بعيد، أو التقاط الصور 'لظهره فقط'، وذلك من خلال كُوة بالباب الخشبي العتيق والوحيد بالمبني.. في حين لا يمكن أبدًا معاينة وجه 'هتلر' إذ كان يطل علي الفناء الخلفي الذي أُحيط بجدار مرتفع تحرسه الشرطة علي مدار الساعة للحيلولة دون تسلقه. عبر 'مايكل شودريتش'- الحاخام الأكبر لبولندا- عن استيائه لوجود التمثال في هذا المكان، لما قد يسببه من إثارة لمشاعر الجالية اليهودية هناك، حال اعتباره نكئًا لقروح لم تبرأ بعد.. ملخصًا رأيه في أن ذلك يُعد نوعًا من عدم تقدير لما جري لليهود علي يد 'هتلر'. بينما يري 'كاتيلان'- بعين الفنان الحالم الذي تعمد إثارة الجدل- أنه لم يسعَ قط من خلال تصوير التمثال علي هذا النحو إلي طلب الصفح نيابةً عن 'هتلر' فيما ارتكبه بحق الإنسانية، ولكنه أراد فقط تذكير الشعوب بأن كل ديكتاتور كان طفلًا بريئًا يومًا ما.. وأن توريث الحقد والكراهية لأجيال تلو الأخري سيؤدي حتمًا إلي فناء البشرية بأسرع ما يمكن.. والأفضل أن نطوي تلك الصفحات الحزينة إلي الأبد ونلقي بها في قاع أدراج الذكريات المنسية. هكذا تعامل 'ماوريتسيو كاتيلان' بمنتهي الرقة والأدب عندما أراد تجسيد واحد من أعتي السفاحين علي سطح كوكبنا!! وهكذا التهبت مشاعر اليهود المرهفة لمجرد رؤية 'قفا هتلر' وهو راكع يصلي!! وهكذا تغاضي المصريون في تبلد ولا مبالاة عن رأس الفرعون الملقي تحت حذاء شامبليون طيلة قرن ونصف!! [email protected]