لا تمر دقيقة واحدة علي أي من وسائل الإعلام المصرية، إلاّ ونجد من يطالب الناس بأن يخلعوا رداء السلبية وينخرطوا في مشاركة سياسية إيجابية، حتي يصبحوا مواطنين ''صالحين''، لكن أحداً من هؤلاء لم يعن كثيراً بأن يبين لنا ما معني المشاركة السياسية تلك التي يطالبنا بأن نضعها نصب أعيننا ليل نهار. فالمشاركة تعني، بصفة عامة، الجهود المشتركة، حكومية وجمعيات المجتمع المدني، في مختلف المستويات والتي ترمي إلي تعبئة الموارد الموجودة أو التي يمكن إيجادها لمواجهة الحاجات الضرورية وفقاً لخطط مرسومة في حدود السياسة الاجتماعية للمجتمع المصري، وتعني أيضاً التعاون القائم علي الشعور بالمسؤولية الاجتماعية من أفراد المجتمع ومنظماته وقياداته، والتي تنبع من اتجاه اجتماعي ومبادئ ثقافية وأخلاقية. أمّا المشاركة السياسية فتكمن في الأنشطة التطوعية التي يشارك بها الفرد بقية الجماعة الوطنية في اختيار المسؤولين وصناع القرار، وصياغة السياسات العامة، سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وتتدرج هذه الأنشطة من الانتماء إلي الأحزاب السياسية والترشح في الانتخابات والتصويت والمساهمة في الحملات الانتخابية، والتبرع بالمال لتعزيز خيار سياسي معين، وحضور الاجتماعات السياسية، وإجراء اتصالات بشخصيات سياسية رسمية، وكتابة الخطب وإلقائها، والقيام بالدعاية لمصلحة حزب سياسي أو حركة اجتماعية، والمشاركة في النقاش والجدل العام، وجمع المعلومات حول السياسات المحلية والدولية. فالأصل في الأحزاب السياسية أن تمارس السياسة وتنشغل بالتدبير العام، فالسياسة ليست همّاً حزبياً فحسب، كما يفهم كثيرون، وإنما هي همّ عام. فكل عمل حزبي في عمقه القانوني والإنساني سياسي وليس كل فعل سياسي بالضرورة حزبياً. وما سبق يشمل الأنشطة التي توافق القواعد الشرعية المقررة والسلمية المتعارف عليها، لكن المشاركة السياسية قد تجنح إلي أفعال تخالف تلك القواعد من قبيل السلوك العنيف والمتطرف، ومختلف المقاومة المدنية من التظاهر والاعتصام والاحتجاج والإضراب، وتكمن عدّة دوافع وراء كل هذا، مثل باعث الانتماء، وباعث الإنجاز، وباعث البحث عن مزيد من قوة. والمشاركة السياسية هي نشاط اختياري، ومزاولة إرادية، ترمي إلي التأثير في تحديد السياسات العامة، واختيار القادة علي المستوي المحلي والوطني، سواء كان هذا النشاط موفقاً أو غير موفق، منظماً أو عشوائياً، مستمراً أو متقطعاً، والمشاركة مؤشر تفاعلي لصحة العلاقة بين المجتمع والسلطة السياسية، فبقدر ما تعبر السلطة عن مجتمعها تعبيراً دقيقاً وأميناً، بقدر ما تتعزز المشاركة السياسية الإيجابية المنظمة لأفراد المجتمع في الشؤون العامة، سواء بصفتهم الفردية، أو عبر المؤسسات والوسائط السياسية. وتتسم المشاركة السياسية بعدّة خصائص: أولها الفعل، الذي ينطوي علي تحرك الجماهير بنشاط صوب تحقيق الأهداف. وثانيها التطوع، حيث يقدم الناس علي الانخراط في المجالات العامة بإرادة حرة، من دون أي إكراه مادّي أو معنوي. أمّا ثالثها فهو الاختيار، الذي يعني أن يمتلك الأفراد تحديد توقيت وصيغة المشاركة، ويكون بوسعهم أن يمتنعوا عنها في الوقت الذي يحددونه، وحسب ما تقتضيه مصالحهم. فالمجال السياسي بمصر حكمته فكرة ''التعاقد'' لعقود، خلال فترة الاستعمار وما بعده بدرجات متفاوتة، أي ''التعاقد'' بين الدولة والحركة الوطنية، لكن بعد حصول الاستقلال السياسي ستعرف هذه الفكرة ارتكاساً واضحاً، ومن هنا فإن العمل السياسي، ترتبت عنه نتائج غير منصفة للتاريخ والفاعلين الحقيقيين، ولذلك جاء من احتل المشهد السياسي لعقود من الزمن، دون أن تكون ولادته طبيعية كشكل من أشكال الريع السياسي، والقرصنة السياسية، وإجهاض مراحل تطور تاريخ مصر المعاصر. فالوجوه والهيآت التي صُنعت صنعاً، في تاريخ مصر المعاصر، هي ذات جذور ريعية، استفادت من وضع معين، ولا يمكن أن تعيش خارج هذا الريع السياسي المعنوي والمالي والاقتصادي، في مواجهة شرعيات تاريخية وشعبية جماهيرية وديمقراطية. فما نريد قوله، أن العديد من الفاعلين السياسيين لا يمكن أن يعيشوا إلا من خلال الموروثات السياسية الفكرية والنضالية والأخلاقية، والعلائقية، التي فقدت مقوماتها التأسيسية حتي وهم يسعون إلي تدمير هذه المرتكزات. والسؤال لا يتعلق بجوهر الارتباط بالماضي، الذي هو مطلوب لبناء الحاضر والمستقبل، وإنما بمدي الاستعداد لتقبل أي منظور نقدي وعقلاني. فالمفروض في المشاركة السياسية المصرية، أن لا يقف المشاركون السياسيون علي درجة واحدة من الانخراط، بل يتفاوتوا تفاوتاً ظاهراً، ولفت هذا التفاوت أو ذلك التنوع انتباه متخصصين كثر فحاولوا تصنيف هؤلاء المشاركين في فئات معينة، فقسمهم أحدهم إلي متفرجين ومشاركين ومجادلين، وذهب آخرون إلي تقسيمهم إلي ست شرائح تتدرج من الأدني إلي الأعلي فتبدأ بغير المشاركين علي الإطلاق، ثم المهتمين بالتصويت في الانتخابات، فالنشيطين الواضحين المعروفين، ثم المهتمين بالتفاعل مع الجماهير، فالمشاركين في الحملات الانتخابية، وأخيراً المنغمسين في مشاركة سياسية ظاهرة. وهناك من قسم شرائح المشاركين إلي ستة أنواع: الأول يتمثل في القادة الذين يتولون المناصب الحكومية، وهؤلاء قد يخدمون كأعضاء في مجلس عام أو لجنة أو ما يشبه ذلك، ويمكن أن ينتخبوا لمناصب عامة. والثاني يشمل النشيطين الذين يشتركون في الأعمال السياسية المنظمة، وقد ينخرطون في أعمال تطوعية. والثالث يضم المتصلين بالحياة السياسية، والذين يسعون إلي ذلك بجمع المعلومات، وترسيخ القيم السياسية. والرابع يشمل المواطنين، الذين يجدّون في سبيل القيام بما عليهم من مسؤوليات، في المساهمة في صنع السياسات العامة واختيار الحكام، وما يتطلبه هذا من معرفة سياسة وانحيازات واتجاهات. أمّا الخامس فيضم المهمشين، الذين لا تربطهم بالنظام السياسي سوي خيوط واهية. وأخيراً يأتي المنعزلون، الذين لا يشاركون سياسياً إلاّ نادراً، بل قد لا يشاركون علي الإطلاق، وهم لا ينتمون إلي أي من الفئات الخمس السابقة. فالسياسة هي فن الممكن كما يقال، والسياسة هي عمل نبيل إذا ما اقترنت بأبعاد أخلاقية، وهي ما يميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية، ولذلك كانت الإيديولوجيات والتوجهات الفكرية والسياسية، وأنشئت أنظمة سياسية، وتكونت أحزاب ومنظمات ومؤسسات، والسياسة بطبعها ماكرة، فهناك عدّة عوامل تحدد الرغبة في المشاركة السياسية، ومستواها ودرجتها وشكلها.. أوّلها أنّ هناك علاقة طردية بين حجم مشاركة الفرد ومستوي المثيرات السياسية التي يتعرض لها في حياته. وثانيها أنّ هناك علاقة طردية بين مستوي المثيرات السياسية التي يتلقاها الفرد والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، ففي المتوسط العام فإنّ أبناء الطبقة المتوسطة يتعرضون لشواغل السياسة أكبر من أبناء الطبقة العاملة. ويختلف مستوي الاهتمام السياسي للفرد تبعاً لاختلاف الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، التي تسهم في صياغة معرفة الأفراد بشؤون السلطة والحكم، وصناعة القيم التي تترسخ في نفوسهم، وتشكيل اتجاهاتهم في أذهانهم من أوهام عن التمسك بكل ما يحمي الذات ويصون الهوية، لاسيما إن كانت هذه المعلومات من النوع الذي يساءل بعض ما يعتقده حيال نفسه، والشخصية الوطنية لبلده، ومعتقداته الدينية. ويرتبط الاهتمام السياسي بالنوع، لاسيما في الفئات الأقل تعليماً، حيث ينشغل الذكور بالسياسة بدرجة أكبر من الإناث، ويقود ارتفاع المستوي الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي للشخص إلي تعزز شعوره بالثقة بالنفس ومن ثم رسوخ الاقتدار السياسي لديه، وسعيه إلي تنمية معارفه بالمجال العام، وإحساسه بأنّ بوسعه أن يؤثر في مجريات الأمور ويقوم بما عليه من واجب حيال وطنه، ويؤدي شعور المواطن المصري بالاغتراب إلي تدني رغبته في المشاركة السياسية، لأنّه لا يثق بالسياسة والسياسيين، ويحس باللاجدوي من الانخراط في أي عمل إيجابي. فالتحديات الانتخابية البرلمانية المقبلة، تتطلب من الدولة ومن الأحزاب السياسية اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتخليق الحياة العامة والتصدي بقوة لمختلف أشكال الفساد، ولتنطلق الأحزاب السياسية من محاربة كل أشكال الفساد الذي ينخر تدبير أنظمتها الأساسية وتنظيمها، وتسييرها. وعلي الدولة تطهير السلوك الحزبي وإعادة الإعتبار إلي مؤسساته التمثيلية الموشكة علي الانهيار، وعلي الكل أن يقتنع بأن الفساد الانتخابي يدخل مصر في متاهات الاختلالات المؤسساتية ويفرز نخب غير مؤهلة وغير ديمقراطية وغير مواطنة في مجال إعداد السياسات العامة ومراقبتها، يؤدي حتماً إلي قصور في البرلمان المقبل، قصور يتجاوز ما هو قانوني أو مؤسساتي إلي ما هو بشري. أعتقد أن مصر تعيش ظرفية سياسية حساسة، وعلي الكل أن يساهم في تحويل الانتخابات البرلمانية المقبلة إلي عرس ديمقراطي وليس إلي مأتم ديمقراطي، وإذا كانت بعض الأحزاب السياسية وبعض المرشحين قد خانتهم الجرأة لإعلان مسؤولياتهم في إفساد الانتخابات البرلمانية السابقة، فعلي النخبة الجديدة التشبث بأمل التغيير في مجتمع كل متمنياته أن يتحقق التغيير حتي نجعل من الانتخابات البرلمانية 2016 مدخلاً لانتخابات يكون فيها الفائز هو الديمقراطية الوطنية، فهل ستكون الدولة والأحزاب السياسية والمواطن في الموعد؟ فالتجربة التي تخوضها مصر اليوم، في المشاركة السياسية الشعبية لصنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبعد التطورات والتوترات التي عرفتها مصر ونجاح الثورة، كل هذه الأمور لها أبعادها علي النتائج المحتملة في راهن الممارسة السياسية في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ما يكسبها اختلافاً نوعياً قد لا يكون كبيراً من حيث النتائج المحتملة وإنما نوعياً من حيث الآثار التي سوف يحققها ويفرضها علي السياقات الثقافية والاجتماعية للمجتمع المصري، بمعني أن كثيراً من مناظير الوعي بمفهوم المشاركة السياسية في حد ذاتها سوف يعاد النظر فيها بناءً علي هذه التجربة. فمن ميزات الانتخابات البرلمانية القادمة، أنها أوجدت سياقات جديدة لرؤية الحياة وأساليب إدارتها في الذهن الجمعي نتاج ما عرف بالثورات الشبابية وما تبعها من نظريات تتحدث عن نهاية ما يعرف بسيادة النظم القديمة في منظومات السياسة والاقتصاد، حيث نجم عن هذا المنطق القديم إضعاف للحياة السياسية المصرية، وتعميق هشاشتها التي انكشفت أمام الرأي العام المصري والعربي، لتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ الكوني تركز علي معايير العدالة بوصفها هي المطلوب الأول، في حين كان الناس في الأمس القريب تتحدث عن أزمة الحريات، التي انتهت مع الفضاءات المفتوحة وشبكات التواصل الإجتماعي. عموماً فإن التأثير الشبابي المصري، سوف يلعب بتقديري هذه المرة عاملاً أساسياً في نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو ما سيعيد ترتيب الأوراق في بيت البرلمان المقبل، وسيضخ دماء جديدة ستجعل المشهد مختلفاً عن الماضي. فالكثير من الشباب المصري الآن يتحدثون ويديرون حوارات عبر الوسائط الإعلامية الأكثر حداثة يعبرون فيها عن رفضهم للأشكال التقليدية من الاختيار ويبعدون الخيارات القائمة علي مجرد الوجاهة الاجتماعية أو الوفرة المالية أو النعرة الطائفية، وهذا بدوره سيؤدي لإيجاد حالة من التفكير الجمعي بخاصة لدي هذه الشريحة، سوف تؤثر حتماً في النتائج البرلمانية المقبلة.