شعرت بالصدمة، وأنا أستمع لرئيس المحكمة، وهو يتلو الحكم ببراءة مبارك ونجليه ورجل الأعمال حسين سالم، ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي و6 من مساعديه. أُدرِك أن 'الحكم عنوان الحقيقة'.. بل ومقتنع تمامًا منذ نظر وقائع القضية بأن الأوراق والمستندات وشهادة الشهود التي تم تداولها أثناء المحاكمة نتيجتها الطبيعية.. براءة مبارك ونظامه.. من تهم الفساد وقتل المتظاهرين. لذلك كنت وغيري كثيرون نطالب بعد الثورة مباشرة، بمحاكمة ثورية لمبارك ونظامه، وكتبت في أكثر من مناسبة، مطالبًا بذلك.. وكنت أسأل المعترضين علي المحاكمات الاستثنائية: ما هي عقوبة الدوران في الفلك الأمريكي والانصياع الكامل لرغبات واشنطن.. في قانون العقوبات؟!. وما هي عقوبة 'فتَّح مُخَك' التي قالها الرئيس الأسبق في خطاب شهير أثناء حديثه عن الاستثمار وما يواجهه من بيروقراطية؟!!.. وكانت وقتها دعوة صريحة ومبكرة للرشوة والفساد!!.. وما هي عقوبة 'كبَّر مُخَك' التي قالها في خطابه بالمؤتمر السادس للحزب الوطني؟!!.. لكن للأسف الأنظمة المتعاقبة بعد ثورة 25 يناير تعاملت مع قضية مبارك وكأنها 'قتل في خناقة' أو 'سرقة في أتوبيس'.. والقوي السياسية إلا من رحم ربي راحت تتحدث عن مساوئ المحاكمات الثورية أو الاستثنائية، وتهيل التراب علي المحاكمات التي جرت بعد ثورة يوليو، إما عن جهل، كما فعل دراويش الديمقراطية وحقوق الإنسان.. وإما عن سوء قصد كما فعل الإخوان، نكاية في الزعيم الخالد جمال عبد الناصر. حتي إن حسين إبراهيم رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الحرية والعدالة حزب الأكثرية في مجلس الشعب الذي أعقب ثورة 25 يناير، أعلن صراحة رفض الإخوان الدعوات السياسية التي تطالب بعمل محاكم ثورية لمحاكمة رموز النظام السابق، وقال نصًا: 'نحن ضد المحاكمات الاستثنائية أو الثورية'.. وها نحن ندفع الثمن.. ثمن العبارات الرنانة التي راحت غالبية القوي السياسية تتشدق بها.. لقد بدا واضحًا في المحاكمتين أن رئيس المحكمة مكتوف اليدين، ومحكوم بنصوص لا يستطيع تجاوزها.. وتذكروا جيدًا كلمات المستشار أحمد رفعت قبل النطق بالحكم في المحاكمة الأولي، عندما كان يتحدث عن ثوار 25 يناير قائلا: 'لقد كواهُم تردي حال بلدهم اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا وتعليميًا وانحدر بها الحال إلي أدني الدرجات بين الأمم وهي التي كانت شامخة عالية يشار إليها بالبنان مطمع الغزاة والمستعمرين بموقعها وخيراتها فأصبحت تتواري خلف أقل وأبسط الدول المتخلفة في العالم الثالث'.. كان المستشار أحمد رفعت يشيد بالثورة.. ولسان حاله يقول: أنا معكم.. لكن هذه هي الأوراق والمستندات التي تم تداولها، لدرجة أنه لم يجد بين نصوص القانون الجنائي ما يعاقب به مبارك سوي امتناعه عمدًا عن إصدار القرارات والأوامر والتعليمات والتوجيهات التي تحتمها عليه وظيفته والمنوط به الحفاظ علي مصالح الوطن ورعاية المواطنين وحماية أرواحهم والذود عن الممتلكات والمنشآت العامة والخاصة المملوكة للدولة وللأفراد طبقًا للدستور والقانون بمعني أبسط: لقد تم الحكم علي مبارك بالمؤبد في المحاكمة الأولي بتهمة الإهمال في حماية المتظاهرين!!!. نفس الأمر استشعرته، وأنا أستمع لعبارات المستشار محمود الرشيدي التي اختتم بها منطوق الحكم في المحاكمة الثانية.. فقد قال عن استغلال نظام مبارك لنفوذه: 'يجب علي القاضي النافذ البصيرة أن يطوِّع نصوص القانون لمعني العدالة في قضاياه، فإذا عصت ولم تطاوعه حَكَمَ بمقتضي النص، ونبَّه إلي ما فيه من ظلم ليكون ذلك سبيلا لإصلاح القانون وليبرئ ذمته أمام لله'.. وتابع: 'سدًا لثغرات اتجار الموظف العام بأعمال وظيفته أو استغلال نفوذه ثم الاحتماء بالمادة المسقطة للدعوي الجنائية فإن المحكمة تهيب بالمشرع الجنائي وفي نطاق النهضة التشريعية المقبلة عليها البلاد ضرورة التعجيل بتعديل تشريعي للفقرة الأخيرة من المادة '15' من قانون الإجراءات الجنائية.. لتبسط العدالة سلطانها علي كافة صور الرشوة للموظف العام أو المتاجر بنفوذه'. وقبل أن يغادر المنصة قال المستشار الرشيدي: 'رغم ما جلي للمحكمة من نقاء المطالب المشروعة للمتظاهرين من الشعب المصري فجر الثورة الشعبية الأولي في 25 يناير 2011 والتي نادت بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لما اعتري النظام الحاكم من وهَن في سنواته الأخيرة ومثالب.. كبطء القرار وتهيأ للاستحواذ علي مقاليد الحكم وقرَّب الأتباع ونضب ضخ دماء جديدة علي مقاعد صارت حكرًا لقيادات تناست دوران عجلة وقانون الحياة دومًا للأمام وغُض الطرف عن الموروثات الشرطية التي أغفلت الفكر الأمني الخلاق'. وأضاف: 'تقاطر علي ثورات مصر زمرة من المنتفعين وأصحاب المصالح والمتسلقين مع تزييف الإرادة الشعبية واندثار التعليم وإهدار الصحة وتجريف العقول المستشرقة للغد.. إلا أنه ما كان يتناسب الولوج لمحاكمة جنائية لرئيس الجمهورية الأسبق عملا بقانون العقوبات واستبدال الأفعال الخاطئة في نطاق المسئولية السياسية بالجرائم المشار إليها في منطق الاتهام'. وهي إشارة واضحة من المستشار الرشيدي إلي أنه كان مغلول اليدين غير قادر علي اتخاذ قرار سوي الذي صدر عنه، وذلك بسبب عدم تقديم مبارك للمحاكمة السياسية وإحالته لمحكمة الجنايات. بقي القول ويغضب مَنْ يغضب إن الحكم الأخير أكبر دليل علي أن القضاء المصري 'غير مُسَيَّس'.. ولو كان يخضع لمعادلات السياسة، لأصبحنا أمام حكم آخر مختلف، وتمت التضحية بحبيب العادلي ورجاله. لذلك أدعو القوي السياسية والثورية لتدشين حملة واسعة، لمحاكمة مبارك ورموز نظامه محاكمة ثورية. الصيد في الماء العكر المثير في الأمر هو استغلال 'أنصار مبارك' و'أنصار الإخوان' علي السواء للحكم.. فكل يغني علي ليلاه.. فأنصار النظام الفاسد راحوا يراهنون علي كراهية الشعب المصري للإخوان، لتمرير حكم براءة مبارك واعتباره نصرًا عظيمًا!!.. متناسين أن جماعة الإخوان ما هي إلا أحد تجليات أو نتائج نظام حكم مبارك.. شأنها شأن ظاهرة أطفال الشوارع وتفشي أمراض الكبد والكلي والسرطان والهجرة غير الشرعية والخصخصة والدروس الخصوصية وغيرها. فلولا سياسات 'التفريط' في المشروع الوطني والثوابت القومية التي انتهجها مبارك وحولتنا إلي مجرد تابع للولايات المتحدةالأمريكية.. ولولا الفساد والاستبداد والظلم والجهل والمرض، وتخلي دولة مبارك عن أبسط أدوارها، لما وجد الإخوان الساحة خالية، وتمكنوا من لعب دور المنقذ.. ليقفزوا علي الحكم بعد الثورة، باستغلال حاجة الناس ومرضهم ومعاناتهم. وكما فعل أنصار مبارك، راح أنصار الإخوان يراهنون علي غضب الشعب المصري من سياسات الرئيس المخلوع، لتصفية الحسابات مع ثورة 30 يونية.. نكاية في الثورة التي عزلتهم وكشفتهم ووضعتهم في المكان الذي يليق بهم في مزبلة التاريخ. بل أزعم أن الإخوان كانوا يتمنون صدور الحكم علي هذا النحو، وأن يحصل مبارك علي البراءة.. غير مهتمين بما اقترفه نظامه من جرائم، حتي تتسني لهم المتاجرة بذلك، لتشويه ثورة 30 يونية، ووصفها بأنها ثورة مضادة لثورة 25 يناير. لكن نسي أولئك وهؤلاء أن الشعب المصري لم يعد يقبل بأن يوضع أمام خيارين أحلاهما مُر.. وأن تجربتنا القاسية مع الجماعة الإرهابية.. لن تكون في يوم من الأيام إضافة إلي رصيد نظام مبارك، بل هي دليل إدانة له.. كما أن تجربتنا مع نظام مبارك لن تكون في يوم ما إضافة لرصيد الإخوان. فإلي أولئك وهؤلاء: لقد تجاوزكم التاريخ.. عندما خرج المصريون في 30 يونية ليستكملوا ما بدءوه في 25 يناير، بعد أن تيقنوا أنهم بصدد عملية توريث نظام مبارك للإخوان برعاية أمريكية، وبعد أن أدركوا وبالتجربة العملية أنهم تعرضوا لخديعة كبري، وأن نظام الإخوان ما هو إلا صورة مشوهة من نظام مبارك، مضافة إليه الخيانة والإرهاب. 28 نوفمبر إلي من يعتقدون أن الإخوان يختلفون عن الجماعات الإرهابية في سوريا وليبيا والعراق.. وإلي من يعتقدون أن حسن البنا وسيد قطب ومحمد بديع يختلفون عن عتاة الإرهاب، أبو بكر البغدادي وأيمن الظواهري وأبو محمد الجولاني.. فأعلام داعش التي ارتفعت في مظاهرات 28 نوفمبر تصفعهم.. فهل يستيقظون؟!.