هل كتبت علينا الأحزان؟ سؤال بتنا نكرره كثيرًا هذه الأيام فما نكاد نفيق من فجيعة إلا وتصدمنا أخري أكثرإيلامًا.. هل كتب علينا ان نودع فلذات أكباد لا ذنب لهم ولا جريرة سوي ان أهاليهم ائتمنوا عليهم من لا يؤتمن، فألقوا بهم في التهلكة دون وازع من ضمير أو أدني إحساس بالمسئولية؟! الأسبوع الماضي أفقنا.. صباح يوم حزين علي حادث أودي بحياة إحدي عشر فتاة في عمر الزهور من طالبات جامعة سوهاج بالاضافة إلي الإصابات، والأسباب كانت جميعها مكررة وهي السير في الاتجاه الخاطئ 'العكسي'، رعونة السائق، والطرق غير ممهدة، وهي أسباب مللنا ترديدها عقب كل حادث. والمصيبة ان بعضًا من خربي الذمم من المسعفين استولوا علي الحلي الذهبية التي كانت تتحلي بها الطالبات المتوفيات، وإن صح هذا الكلام الذي جاء علي لسان والد الطالبة الوحيدة الناجية من الحادث والمصابة إصابات بالغة، ونرجو الا يكون صحيحًا.. فقل علي الدنيا السلام، إذ كيف لمن اؤتمن علي الأرواح أن يخون الأمانة، وبدلا من أن يسعف يتعامل مع الأمر علي انه غنيمة. لم نكد نفيق من هذه الوجيعة إلا ويكتب علينا يوم آخر من الحزن ولكن هذه المرة أشد إيلامًا، وفيها لم يمت الطلاب وحسب ولكن تفحمت جثثهم، ووفقا لشهود العيان، فإنهم كانوا يستغيثون بينما النيران تلتهم أجسادهم الغضة، ولم يستطع ان يقترب منهم أحد لنجدتهم.. النيران التي لم تُبقِ علي حي، إلا من كتب الله لهم النجاة بعد ان قفزوا من النوافذ، التهمت أيضًا سيارة ملاكي وبها أسرة مكونة من خمسة أفراد. آه يا ولدي.. كم قالتها كل أم ملتاعة لفقد فلذة كبدها وطفلها الذي رعته بسهر الليالي وشقي الأيام، وتكبدت العناء حتي زغرد قلبها فرحًا وهي تراه يشب يومًا بعد يوم.. انكسر ظهري.. كم قالها كل أب عاش لوعة فراق الابن الذي كان يدخره لمقبل الأيام ليعينه ويشد من أزره.. لا اعتراض علي قضاء الله سبحانه وتعالي القائل في كتابه العزيز: 'أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة'، ولكن ما نقوله: إن هناك إهمالًا فادحًا وفوضي عارمة في المرور والسير علي الطرقات. فلا يكاد يمر يوم علي مصر المحروسة، وإلا نسمع عن حادث أودي بحياة عشرات الضحايا وأضعافهم من المصابين علي امتداد شبكات الطرق علي طول البلاد وعرضها وشمالها وجنوبها، وسواء كان الحادث بسبب أخطاء القيادة أو تردي حالة الطرق أو فوضي المرور، فإن المحصلة في النهاية عنوانها واحد وهو الإهمال. وتحتل مصر وفقًا لكثير من الإحصاءات الدولية مرتبة متقدمة في ارتفاع حوادث الطرق وبالتالي في عدد الضحايا الذين تراق دماؤهم، والأسباب بالطبع متعددة وحدِّث ولا حرج، والغريب أن أيا من تلك الحوادث المفجعة تحرك ساكنا في المياه الراكدة علي طول المدي، فالمسئولون من جانبهم يطلقون تصريحات نارية عقب كل حادث ويتم صرف تعويضات لأسر المتوفين والمصابين، ثم نعود كما كنا وحيث لا جديد. الغريب في الأمر أن الأسباب معلومة للجميع، ولكن لا أحد يكلف نفسه عناء معالجة المشكلات وحماية أرواح الآلاف ممن يقطعون الطرق يوميًا ذهابًا وإيابًا، والمشكلة أن نفس الكلام يتكرر من قبل المسئولين في كل مرة، وتفرد الصحف مساحات لا بأس بها من صفحاتها لتحليل أسباب الكارثة، وفي النهاية ترفع الأقلام وتطوي الصحف. ولعل حادث البحيرة الذي أدمي قلوب المصريين جميعًا، كان هو نقطة الانطلاق نحو تشريعات مرورية رادعة أقرها مجلس الوزراء في نفس يوم الحادث، ومنها تغليظ العقوبات في مخالفات المرور، بالإضافة إلي منع سيارات النقل من المرور إلا بعد الساعة الحادية عشرة مساء حتي السادسة صباحا، وبالتأكيد إنها إجراءات طال انتظارها، بعد ان صال العابثون وجالوا في الطرقات دون رقيب أو حسيب. مشكلة المرور في مصر مشكلة بالغة التعقيد، فما بين استهتار في منح رخص القيادة دون اختبارات فعلية وفي الغالب يكون الحكم هو دفع 'المعلوم'، وبين جهل بقواعد وقوانين المرور، مرورًا بتعاطي معظم سائقي النقل لمنشطات وعلي رأسها عقار الترامادول، وصولاً إلي تهالك شبكات الطرق والتراخي في تطبيق المخالفات المرورية، تكتمل الصورة الكارثية لأحوال الطرق، والغريب أن رئيس هيئة الطرق والكباري كان قد نبه قبل حادث البحيرة بيوم واحد إلي ان معظم سائقي النقل الثقيل والنقل الجماعي لايحملون رخص قيادة إضافة إلي تعاطيهم المخدرات. نرجو ان يتم إقرار التعديلات الجديدة في قانون المرور في أقرب وقت وتنفيذها علي وجه السرعة حتي نقضي علي 'متلازمة الفوضي' في شوارع مصر، وحتي نودع شعار الخارج من الطريق مولود والداخل فيه مفقود.