هي ذي تحتل مدارها.. تصعد فوق السحاب، لتنير السماء العربية -كشأنها دائمًا- بنجوم الوطن من المحيط إلي الخليج.. وتفتح ذراعيها فتحتضن المبدعين الناصعين الصاعدين من قلب الوجدان العربي الأصيل، لتعزف بهم ومعهم أنشودةَ الزمن الأجمل. فها هي ذي مصر, تُشهر نهر النيل كسيف, وتقود الصف.. تمامًا كما تنبأ معين بسيسو يوم رحيل عبد الناصر. لكنها اليوم تنثر من مدارها الحضاري في سماء الوطن نجومًا متألقة اجتمعت السبت الماضي علي خشبة مسرح دار الأوبرا المصرية، لتعزف نشيدًا من مقام العروبة والحلم بالغد الجميل، اشترك في عزفه مبدعون من مشرق الوطن العربي ومغربه من قلب القاهرة، ليؤكدوا أن فجر الجمال الجميل قادم وليس ببعيد. فلقد افتتحت دار الأوبرا فعاليات الدورة ال23 لمهرجان الموسيقي العربية بأوبريت 'الفن وطن'، الذي ألَّفه الشاعر إبراهيم عبد الفتاح ولحَّنه الموسيقار العراقي نصير شمه وأخرجه مهدي السيد، بمصاحبة أوركسترا السر بقيادة سعيد كمال وشارك فيه مطربون شباب ممن تألقوا خلال العام الماضي ببرامج اكتشاف المواهب التي كانت تشعل التنافس بين المتقدمين عبر تنمية النعرات الإقليمية وإشعال التصويت الإقليمي.. لتبادر دار الأوبرا المصرية باحتضانهم وتقدم بهم معزوفةً رائعةً من مقام الانتماء العربي الواحد.. فتؤكد القاهرة بذلك أنها مازالت -كما كانت- حاضنةً للمواهب العربية الأصيلة. ولقد شارك في الأوبريت المطربون والمطربات: مروة ناجي من مصر، وأياد بشير من الأردن، وهالة القصير وعمار خطَّاب من سوريا، وكرار صلاح وعامر توفيق من العراق، ومحمد الهاشم من السعودية، ومحمد ترابي وأمنية من المغرب، وعايدة محمد من تونس، وأحمد حسين من لبنان، وأياد القاسم من الكويت. هذا الأوبريت -الذي تبنت فكرته ودعمته بقوة الفنانة إيناس عبد الدايم 'رئيس الأوبرا المصرية'، والذي جاء كاقتراح من الفنانة مروة ناجي التي شاركت في أحد برامج المواهب- أكد أن مصر بعد ثورة 25 يناير - 30 يونية غير مصر قبلها، وأن مصر تعود من جديد -فعلًا لا قولًا- لممارسة دورها الحضاري في احتضان الموهوبين والمبدعين العرب في مجالات الفنون كافة. إنه يذكِّرنا بأوبريت 'وطني حبيبي الوطن الأكبر' الذي شكَّل وجدان جيل كامل من المواطنين العرب للراحل العبقري محمد عبد الوهاب، لكن الاختلاف بين العملين يتركز في أن أوبريت عبد الوهاب اعتمد علي مبدعين كانوا نجومًا أيام ذاك, لكن أوبريت 'الفن وطن' يعتمد علي مبدعين شبان سيكون لهم شأن كبير في عالم الغناء العربي مستقبلًا. إنه مقدمة محترمة وجميلة لمزيد من العمل الثقافي العربي المشترك الذي سيرسم ملامح المستقبل في مواجهة القبح الذي يحاصر الأمة ويحاول طمس معالم التحضر والفن والعقل. أوبريت 'الفن وطن' ليس مجرد احتفالية غنائية لافتتاح دورة من دورات مهرجان الموسيقي العربية، لكنه فعل ثوري عربي يكشف بوضوح أننا نسير علي الطريق الصحيح، ويعيد الاعتبار للفن، ليس كقوة ناعمة -كما يشاع- ولكن كقوة فاعلة في إعادة تشكيل الوجدان العربي، وخطوةً مهمةً علي طريق تنمية الصناعة الثقافية الثقيلة التي أصبحت ضرورة في مواجهة عنكبوتية القبح الطائفي والمذهبي والعِرقي من ناحية ومؤامرات مسخ الهوية العربية من ناحية أخري. فهؤلاء الشبان الموهوبون -الذين أنشدوا نشيدَهم في محبة الفن ومديح الأخوة يوم السبت الماضي من فوق خشبة مسرح الأوبرا المصرية- إنما يرسلون بنشيدهم رسالةً بليغةً لكل عربي بأن ' هويتنا واحدة، وثقافتنا واحدة، وفننا واحد، ومصيرنا واحد في مواجهة التحديات الجسيمة التي تحيط بالوطن من الخليج للمحيط'. تحية لكل مَنْ فكر وأبدع وشارك في هذا العمل الفني الرائع الذي يُعَدُّ علامةً فاصلةً في تاريخ فن الصناعة الثقافية الثقيلة المصرية الفاعلة، وخطوةً مهمةً في مسيرة مواجهة القبح بالجمال.