عندما ضرب الصحفي العراقي منتظر الزيدي، الرئيس الأمريكي بوش بالجزمة في الواقعة الشهيرة التي احتلت صدر الصفحات الأولي في الصحف وتصدرت نشرات الأخبار، خرجت بعض الأصوات توجه اللوم للزيدي وتتهمه بالبعد عن المهنية.. لأنها وجدت في ذلك خروجًا علي آداب مهنة الصحافة وتقاليدها. قالوا: لقد تعدي منتظر الزيدي حدود اللياقة والشياكة والإتيكيت والكومبليموه.. لأن الصحفي محايد.. وكأن الصحفي إنسان معندوش دم ولا نخوة.. ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، والمطلوب منه أن يتعامل مع المحتل والمغتصب بحياد تفرضه القواعد الصحفية!!. انتهت واقعة منتظر وظل شبح المهنية والمعيارية والحيادية والموضوعية والمهلبية يتردد في أروقة الصحافة.. فوجدت أننا أمام 'شوطة' أو علي رأي الست والدتي 'فرّة' اسمها القواعد والأعراف المهنية. من الخطأ أن تكتب في الخبر 'الكيان الصهيوني' لأن هذا رأيك؟!!.. بل من الخطأ أيضا أن تضع كلمة 'إسرائيل' بين قوسين لأن في ذلك وجهة نظر.. عندما تنقل تصريحات مصدر من المصادر 'حسن نصر الله مثلا'.. تقول 'حسب وصفه' حتي ولو كان السيد أو المصدر يتحدث عن انتهاكات صهيونية أو ممارسات وحشية يقوم بها جيش الاحتلال الصهيوني. ليه؟.. لأن الصحفي محايد أو بمعني أدق معندوش دم.. ينقل تصريحات محمود عباس أبو مازن ويكتب بعدها 'حسب وصفه' وتصريحات نتنياهو وبعدها 'كما جاء علي لسانه'.. ويا سلام لو عملت غير كده تبقي من ديناصورات الصحافة التي انقرضت، وتصبح خارج التاريخ.. لامؤاخذة.. تقليدي ورجعي وغير متفاعل وقديم. انت بتقول جيش الاحتلال الصهيوني؟!!.. أوووه فانتاستيك، اسمه جيش الدفاع الإسرائيلي.. انت بتقول: الزعيم الخالد جمال عبدالناصر؟!.. أووه نوووو، صحفي كذاب يزيف الحقائق.. عبد الناصر الله يرحمه مات.. كتبت تصريحات خالد مشعل من غير ما تقول 'حسب تعبيره'؟! انت صحفي من العصر الحجري عندك وجهة نظر!!!. والعبارات والمبررات جاهزة وبراقة.. عايز تقول رأيك.. اكتب مقال.. لكن الخبر والتقرير والحوار والتحقيق.. خليك فريش ومحايد.. علشان تبقي شاطر. وعندما تقول المهنية والحيادية في حدود الثوابت الوطنية والقومية.. تبقي والعياذ بالله 'حنجوري'.. و'فنجري بُق'.. وعايز ترجعنا 100 سنة للخلف. علي الصحفي أن يتجرد من عقله.. حتي يصبح مهنيا وجميلا ووديعا.. ينظر للأمور وكأنه صحفي نمساوي أو دنماركي.. مسجون في سجن أبو غريب زي مسجون في جوانتانامو زي مسجون في سجن من سجون الصين.. فهم بالنسبة له مجرد مساجين.. يتعامل مع حسن نصر الله كما يتعامل مع نتنياهو.. فكلاهما بالنسبة له مصدر من مصادر الأخبار.. يتعامل مع رواد التطبيع كما يتعامل مع رجال المقاومة.. فهما بالنسبة له يعبران عن وجهتي نظر يجب إلقاء الضوء عليهما.. وإلا، فقد وقع في المحظور.. وأصبح صحفي ملون له انتماءاته ووجهة نظره. 'يا نهار أسود.. صحفي عنده وجهة نظر.. كارثة!!'. عملية غسيل مخ يتعرض لها الصحفيون.. صحف أمريكية الصنع والهدف والنكهة.. تكلف الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي الملايين، يدفعها المواطن الأمريكي والأوروبي من قوت يومه لصالح الصحفيين الغلابة يا عيني ع الحنية علشان يتعلموا المهنية والقواعد الصحفية. يا سلام.. المواطن الغربي الذي يطيح بحكومته بسبب إهدار ألف دولار يضحي بالملايين لنشر المهنية الصحفية وإرساء قواعد الموضوعية في العالم الثالث. وللأسف استجاب الكثيرون لذلك وأصبحت 'المهنية' زي 'الميكروجيب' و'الشارلستون' في السبعينات.. موضة غريبة علينا لكن من يرفضها متخلف!!. وهم كبير لا يعيش فيه غيرنا.. قواعد لا يحرص عليها إلا من وقعوا تحت ضغط الثقافة الغربية، مفاهيم تبدلت وثوابت تحطمت.. عقول وقعت فريسة لثقافة 'الهامبورجر' و'الكاوبوي'.. في زمن أصبحنا فيه نتذيل قائمة الدول اجتماعيا واقتصاديا وعلميا وصحيا.. زمن عجزنا فيه عن جمع زبالتنا واستقدمنا الشركات الأجنبية لتجمعها لنا.. زمن أصبح فيه الحاضر سيئا والمستقبل أسوأ.. زمن اختلط فيه الحابل بالنابل.. وضاعت الثوابت وغاب الانتماء.. وأصبحت العقول مهيأة لقبول أي شيء.. الدول الاستعمارية التي تسببت فيما نحن فيه الآن أصبحت هي طوق النجاة!!. المهنية والحيادية في الصحافة وهم.. ولنا في انتخابات اليونسكو الأخيرة عبرة لمن يريد أن يعتبر.. فقد قوبل المرشح المصري أو مرشح العرب فاروق حسني في هذه الانتخابات بعنصرية لا مثيل لها وتحيز واضح من وسائل الإعلام والصحافة الغربية، حتي أنه لم يجد مخرجا لهذه الأزمة سوي أن ينقل وجهة نظره وبرنامجه للرأي العام الغربي من خلال الإعلانات مدفوعة الأجر، فإذا بكل الصحف.. كل الصحف ترفض أن تقبل إعلاناته.. ولم نسمع هنا من يتحدثون عن المهنية والأعراف والتقاليد. يا سادة المهنية والموضوعية والحيادية: المقاومة الفلسطينية التي تكفلها المواثيق الدولية يسمونها في الصحف الغربية إرهابا.. والاحتلال الأمريكي للعراق نشر للديمقراطية!!.. والقدس عاصمة 'إسرائيل'!!.. مجرمون أصبحوا ملائكة رحمة.. وأبرياء تحولوا بفعل الإعلام الغربي إلي إرهابيين.. والصحفيون الغربيون الذين يتبنون الحق العربي مضطهدون ومحاصرون.