كثيرا ما يجهد فكر الكاتب ويحيره بداية مما يكتب.. غالبا ما تعصي الكلمات علي الشاعر في كيف استهلال القصيدة.. وهكذا قلمي اليوم عصيا علي والفكر يعاندني، رغم أني أعرف طريقي الي الموضوع الذي أتناوله الحين.. مصدر حيرتي يغلفها العتاب، والعتاب ألوان، منه الرقيق ومنه القاسي وعتاب المحب لحبيبته.. اخترت عتاب المحب لحبيبته.. عتاب رقيق مغطي بورقة من السلوفان، عتاب رقيق وهو يقول للحبيب 'والنبي ما تزعل'.. اتذكر ابناء جيلي ودورهم وما مر بنا من ازمات، لست اتحدث عن جيلنا، جيل المعاناة الفنية والاقتصادية.. أحكي واتذكرهم بالخير.. كانت مرتباتنا لا تزيد بأي حال من الاحوال عن ورقتين من فئة العشرة جنيهات لثلاثين يوما عملا في المسرح.. وفي تمثيليات التليفزيون لا يتعدي أجر حسين رياض وسميحه ايوب الستين جنيها باعتبارهم نجوما.. اما نحن فكانت أجورنا تبدأ من جنيهين ولا تصل ابدا بعد خصم الضرائب والنقابة عن عشرة جنيهات، وعندما رقيت في التليفزيون الي 16 جنيها في التمثيلية الواحدة اقمت وليمة لزملائي.. عاصر جيلي حروبا وازمات اقتصادية عدة، منها حرب 1956، 1967، 1969، 1973.. وأبرزها حرب 1967، اظلمت شوارع القاهرة وتغطت نوافذها باللون الازرق، التقيت والشاعر الكبير عبد الرحمن الابنودي، وكان هو الآخر في مستهل حياته كشاعر وسياسي وأديب، وتلاقينا في الفكر معا وعزمنا ألا نستسلم للهزيمة.. دورنا اليوم استنهاض الامة بأسرها وليس شعب مصرورفض الهزيمة وإشاعة الامل في نفوس الناس.. في تجمع شبابي مفلس، اعتلينا مسرح الجمهورية، وقدم لنا الشاعر الكبير الابنودي مسرحية 'ياسين وبهية'.. الظلام الدامس وحظر التجوال، قدمنا المسرحية أنا والزميلة مديحة حمدي ومن اخراج الشاب 'محمد مرجان' يعيش في باريس الآن.. امتلأت قاعة العرض الكبيرة باكملها وبالمجان للجماهير.. كانت كل الآلات الموسيقية بحروفها لا تغمض لها عين ليلا او نهارا.. استديوهات الاذاعة مفتحة ابوابها علي مصاريعها، في عمل بروفات وتسجيلات بلا نوم ولا طعام، يفترشون ارض الاستديوهات لسويعات قليلة للراحة.. كذلك كانت استديوهات التليفزيون جميعها في حالة عمل مجهد وشاق لننتج ما اسميناه 'الفن في المعركة'.. اما عظيمة القدر، نهر الوطنية ام كلثوم، فقد خصصت من عمرها سنوات لا ساعات ولا أياما، وشرفت بها وبفنها الامة العربية التي لم تبخل نساؤها وبيوت امرائها بأغلي واثمن المجوهرات من اجل نصرة مصر.. هكذا كان الفن والفنانون في الزمن الجميل.. لم يكن اي فنان منا، كاتبا او شاعرا او ملحنا او موسيقيا او عازفا او مهندسي الاستديوهات، يتقاضي مليما واحدا 'المليم 1/1000من الجنيه'. شاركنا جميعا لم يتخلف منا واحد في زيارة مستشفيات جرحي الحرب، نحمل هدايا المتبرعين من عامة الشعب 'زجاجات كلونيا- فوط وجه- صابون بريحه'.. في زيارة لعنبر حروق النابالم، سقطت الفنانة الرقيقة سعاد حسني، والفنانة سهير رمزي اطال الله عمرها مغشيا عليهما.. تبرعت الفتيات والنساء بخاتم الزواج ودبلة الخطوبه.. اليوم تتبرع الفلاحة البسيطة الحاجة زينب برأس مالها وكل مجوهراتها، حلق ذهب لا يصل وزنه ربع قيراط، ولكنه حلق له مغزي وطني كبير وكأنها تبرعت بثمن كراكة تعمل في قناة السويس الجديده. ذكريات ومواقف لا تسعها مقالة أو صفحات جريدة يومية باكملها من مواقف شعبية لبسطاء عصر الأزمة الاقتصادية الطاحنة والحصار الاقتصادي المضروب علي مصر حتي من حبات القمح.. تباري الفنانون في المواقف العظيمة وتحمل المشقات، فيما عرف بقطار الرحمة من الاسكندرية الي اسوان.. خرجنا زرافات ووحدانا الي الجبهة تحت قصف المدفعية، لزيارة جنودنا علي الجبهة، وكان من بيننا فنانة المسرح المعروفة رجاء حسين ومحمد رشدي وصلاح عرام وعمار الشريعي، وفرق موسيقية عديدة، ودخلت سيارتنا بالخطأ الي حقل الغام وقادنا ضابط شاب الي بر السلام، وعندما وصل الي النهاية بكي، وبعدها غني الفنان عمار الشريعي اغنية 'لغم يا حبيبي لغم' ليزيل عنا رهبة ومخافة ما كنا فيه. حان وقت كلمة عتاب المحبين، وليس لوم اللائمين.. اين اجهزة فناني مصر وخاصة الشباب، ومصر تناديهم بعدما اعطتهم الكثير والكثير من الشهرة والمال الوفير.. مصر اليوم تناديهم، لماذا وضعوا أصابعهم في آذانهم؟.. منحتهم مصر فرص العمل الوفيرة، وأفرد لهم الشعب الصفحات في صحفه القومية.. اما الاخوة الفنانون العرب، من جاءوا لينعموا بالهدوء والامان وبلادهم مشتعلة بالدمار والنار.. أليس في اعناقهم لمصر دين وعليهم ان يردوه.. وعجبي!!.. لست في عتاب مع عادل امام ولكن مع رامي ومحمد.. لست في عتاب مع محمود يس ولكن مع عمرو ورانيا.. لست في عتاب مع محمود عبد العزيز ولكن مع محمد وكريم واحدهما منتج كبير.. مصر الحديثة لهم ولأولادهم وليست لنا.. مصر امنا جميعا، كما اوصتنا بها كل الاديان، وفي حديث لسيدنا رسول الله يقول لسائله من احق بصحبتي يا رسول الله 'قال امك'، وكررها ثلاث.. لست مفاخرا ولا منًا مني علي مصر فقد اعطتني الامان والامن وحفظت لي أولادي، وتعلمت منها وعندها وعلي حساب شعبها الطيب ومستشفياتها المجانية وخيراتها التي لا حصر لها، قمت والله يشهد انا واولادي واحفادي بما افاء الله علينا لصندوق تحيا مصر.. وتحيا مصر