علي الرغم من المواقع المتقدمة التي شغلها صالح عشماوي داخل الإخوان.. فقد أكدت بعض الوقائع أنه كان بعيدًا عن أسلوب حسن البنا في المراوغة والملاوعة.. والقدرة علي قول الشيء ونقيضه دون أدني حرج.. فقد هاجم البنا الدستور علي أنه يتعارض مع الشريعة الإسلامية.. ثم عدل عن ذلك وذكر أنه يتفق مع الشريعة في حوالي 95% من مواده.. وما بقي بعد ذلك فيمكن تعديله بما يتفق مع الشريعة.. وحتي يتجنب الصدام مع الحكومة أدخل عدة تعديلات علي قانون النظام الأساسي للجماعة تقول: 'يؤثر الإخوان دائمًا التدرج والتطور، والعمل المنتج والتعاون مع كل محب للخير والحق.. ولا يريدون بأحد سوءًا مهما كان دينه أو جنسيته أو وطنه' و'يعتمد الإخوان في تحقيق أغراضهم علي وسائل الدعوة والتوجيه والتربية والعمل.. وكل وسيلة أخري مشروعة'.. وبينما كان ذلك منهج حسن البنا وأسلوبه.. فإن صالح عشماوي كان شيئًا آخر.. فقد هاجم الدستور -مرة- واتهمه بالخروج عن الإسلام.. ومعاداة شريعته.. وقد طلبت منه الحكومة العدول عن رأيه.. وإيقاف حملته الهجومية.. وإلا قدمته للمحاكمة.. فرفض العدول عن رأيه.. وأبي أن يكون منافقًا يقول الشيء ونقيضه.. أو جبانًا يخشي في الحق تهديد الحكومة.. ولكن الشيخ حسن البنا -بأسلوبه المعروف- نصحه.. وأرسل إليه: 'اكتب يا صالح ما يطلب منك'.. علي ما جاء في كتاب طارق البشري -الحركة السياسية في مصر 1945- 1952.. ثم أكد البنا علي هذه القضية فنصح في مقدمة كتابه 'مذكرات الدعوة والداعية' من يتصدرون للعمل العام أن يبتعدوا عن الكتابة.. وإلا يورطوا أنفسهم بالتزمات قد تتغير الظروف التي أدت إليها.. وقال بالنص: 'أوصي الذين يعرضون أنفسهم للعمل العام.. ويرون أنفسهم عرضة للاحتكاك بالحكومات ألا يحرصوا علي الكتابة.. فذلك أروح لأنفسهم وللناس وأبعد عن فساد التعليل وسوء التأويل'. وكان كل ذلك في حياة البنا الذي كان يكن لصالح عشماوي تقديرًا خاصًا.. ويثق فيه ثقة كاملة.. وقد تبدل ذلك وتغير بعد رحيل البنا.. فعندما أقال الملك وزارة الوفد قبل 1952.. وأجري عدة تعديلات في سلطة الدولة أهمها تعيين حافظ عفيفي رئيسًا للديوان الملكي.. وكان لذلك وقع مروع علي الناس.. فخرجت المظاهرات الحاشدة في كل مكان تهتف بسقوط الملك شخصيًا وسقوط صنيعته حافظ عفيفي.. ولكن عن طريق 'الكتابة' حيث كانت الهتافات تقول: 'يسقط عفيفي.. وحافظ عفيفي' فانضمت صحيفة 'الدعوة' التي كان صالح عشماوي رئيس تحريرها إلي المحتجين.. وهاجمت حافظ عفيفي.. وقد اعتبرت وكالات الأنباء والدوائر السياسية هذا موقفًا جديدًا لجماعة الإخوان من الملك.. وتداولته كخبر هام.. ولم يكن البنا موجودًا ليعالج الموقف.. وقد أسرع عبد الحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة فأنكر كل علاقة لصالح عشماوي وجريدة الدعوة بالإخوان -بكل جرأة- وأصدر بيانًا جاء فيه: 'يقرر المركز العام للإخوان أن مجلة الدعوة لا تصدر عنه.. ولا تنطق بلسانه.. ولا تمثل سياسته.. وإنها صحيفة شخصية تعبر عن آراء صاحبها.. ولا تتقيد دعوة الإخوان بما ينشر فيها'.. وواضح بالطبع الفرق بين معالجة البنا لمواقف صالح عشماوي ومعالجة إخوان ما بعد البنا لنفس المواقف.. والحدة.. والعداء.. والبغض التي تعامل بها الإخوان مع الرجل.. والتي لازمته طوال حياته فيما بعد.. ويكفي أنه -صالح عشماوي- كان بالنسبة لأغلبية الإخوان -نفسيًا ومعنويًا- هو المرشد التالي عقب اغتيال حسن البنا.. ولكن قيادات الإخوان.. أدارت نوعًا من الصراع تم علي أثره استبعاد صالح عشماوي من المعادلة.. والبحث عن مرشد خارج الجماعة.. فكان المستشار حسن الهضيبي.. ومن المؤكد أن حسن البنا كان يدخر صالح عشماوي لأعمال هامة.. ولا يدفع به إلي مقدمة الإخوان حتي لا يفقده.. وقد جنبه كل مخاطر الجماعة وجهازها السري علي الرغم من أنه المشرف عليه.. فقد اعتقل قادة الجهاز أوائل 1948 بعد واقعة سيارة الجيب وظل صالح عشماوي بعيدًا عن أي اتهام.. وفي كافة حوادث الاغتيالات.. ونسف المنشآت لم يرد ذكر لصالح عشماوي.. ولم يعتقل إلا لفترة عقب قرار النقراشي باشا بحل الجماعة.. ثم أُفرج عنه بعد سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي.. ليحاول لملمة ما بقي من الإخوان.. بعد رحيل البنا.. وغيبة الكثيرين في السجون.. ويذكر له أنه قاد مظاهرات ضخمة من الإخوان لمناشدة البرلمان الوفدي بإلغاء قرار الحل وعودة الإخوان.. ويمكننا القول إن زمن صالح عشماوي قد ولي.. برحيل البنا.. ووقفت القيادة الجديدة للإخوان منه موقف الريبة.. والشك.. والخوف.. كان الهضيبي المرشد الجديد يكاد يشك في نفسه كما يقولون.. ولا يشعر بالأمان في ظل وجود الجهاز السري وقائده عبد الرحمن السندي.. ومن خلفه صالح عشماوي.. وقد فتح الهضيبي أُذنيه للواشين.. أعداء الجهاز السري وكل من يمثله.. وكان أكبر الواشين تأثيرًا.. صلاح شادي.. وعمر التلمساني وأنصارهما.. حتي سيد قطب الذي جنده صالح عشماوي وضمه للإخوان عام 1951.. فقد انحاز للمعسكر الآخر.. وعندما قضي رئيس الجهاز السري ومعه من اختارهم صالح عشماوي للقيام بالتغذية الفكرية للجهاز.. وتم تعيين يوسف طلعت رئيسًا للجهاز 'الجديد' ثم تعيين سيد قطب للقيام -وحده- بمهمة التغذية الفكرية للجهاز.. وقد أبدي سعادة بالغة.. وتعاون مع يوسف طلعت بكل ما أوتي من قوة.. وساهم في استبعاد 'معلمه' صالح عشماوي.. وسعي لوراثته كمسئول إعلامي للجماعة.. ومؤسس لصحافتها.. وبالفعل أصبح سيد قطب رئيسًا لتحرير 'جريدة الإخوان' التي صدرت كبديل للدعوة.. وما زلنا مع صالح عشماوي.. في صعوده وهبوطه..