بين فترة وأخري، يكثر اللغط، وتتنادي أصوات كثيرة، داعية إلي ضروة تجديد الخطاب الديني، وتجديد الفكر الديني، لكي يواكب مستحدثات العصور، ويلبي حاجات التطور في المجتمعات الانسانية وما يستجد، علي إثر ذلك، من إشكاليات وأزمات، لابد لحلها من الاجتهاد وإعمال العقل، والافادة مما يتيحه التطور العلمي الهائل من آليات البحث الحديثة، والانضباط المنهجي، الذي يؤدي إلي دقة الاستنتاج. وتجديد أمر الدين، وفق متطلبات كل عصر، أمر مشروع وسنة مطردة، أشار إليها النبي صلي الله عليه وسلم حين قال: 'إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها'. ومن ثم فقد زخر التاريخ الاسلامي بكثير من الأئمة المجددين الأفذاذ، مثل: عمر بن عبد العزيز، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، وأبو الحسن الأشعري، وفي العصر الحديث جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده. والخطاب، بداية، معناه: التعبير عن الأفكار بالكلمات سواء كانت تلك الكلمات منطوقة أو مكتوبة. والخطاب الديني هو مجموعة الأفكار والمعالجات والمعطيات الناتجة عن مقاربة النصوص الدينية الأصلية الثابتة، وهما هنا: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وإذا كانت النصوص الدينية، في ذاتها، مقدسة، فإن الخطاب الذي يتراكم حولها من جدل العقول البشرية غير مقدس، بل هو ما ينبغي أن ينصب عليه فعل التجديد والتطوير. ولكل عصر خطابه، كما لكل جماعة أو مؤسسة خطابها، بل وربما الأفراد أيضا. هذا الخطاب المتراكم عبر العصور المتعاقبة هو ما نطلق عليه اسم 'التراث' أو 'الموروث' الفكري للأجداد.وهو لا شك يحتوي علي كثير من القيم الحية، ولكنها مطمورة في سفائن غارقة منذ قرون، وتحتاج إلي سباحين مهرة، لكي يستخرجوها ويتيحوا للأجيال الانتفاع بها، والبناء عليها، في معركة التجديد الدائمة، لا أن يبددوها بدعوي الاكتفاء بمعارف العصر، وإحداث القطيعة المعرفية مع هذا التراث وقيمه، وهي دعوي زائفة، لأن الانسان إذا اقتصر علي معارف عصره، أصبح ذوقه وفكره مسطحا ضحلا. وإنما يكتسب الخطاب سماته الجوهرية المميزة من نوعية القضايا التي يعالجها، ومدي قدرته علي الاسهام الفاعل في تعظيم قيم العدل والحرية والرخاء والتقدم، أو الانحراف والعمل علي التضليل، وإثارة البلبلة، وشغل أذهان الناس بمسائل غيبية لا تمس الواقع من قريب أو بعيد، والانشغال بصغائر الأمور علي حساب كبارها، وكذلك التربص وتصفية الحسابات، والنيل من العلماء والمؤسسات. وإذا نظرنا إلي نوعية القضايا المثارة اليوم، وإلي كيفية معالجتها والتعاطي معها مؤسسيا وإعلاميا، مما جعل المجتمع في حالة من الغليان والاختلاف والتنابذ، لأدركنا كم هو متردٍ خطابنا الديني والإعلامي. ولنتأمل بعض القضايا المطروحة علي الساحة الآن، وهل هي تليق بمجتمع مصر ما بعد ثورتين عظيمتين هما ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو، أم هي من مخلفات عصور الانحطاط: عذاب القبر وهل هو حقيقة كائنة فعلا أم هو من صنع ذهنية ترهيبية تخويفية؟ وماذا عن الأدبيات التي ترتبط بهذه القضية من شجاع أقرع يضرب المعذب في قبره ضربة تجعله يغوص سبعين ذراعا.. إلخ؟ وهو ما أنكره الإعلامي إبراهيم عيسي مع أنه غير مختص بهذا الشأن الديني ثم قضية جواز التلصص علي الخطيبة وهي في لحظات خاصة من عدمه، وهي الفتوي المنسوبة إلي الشيخ أسامة القوصي، الطعن في صحيح البخاري، أصح كتاب بعد كتاب الله، ووجوب تنقيته مما يشوبه من أحاديث تبدو متصادمة مع العقل أو بها شبهة تناقض، وهي القضية التي أثارها الإعلاميان إبراهيم عيسي وإسلام البحيري.. قضية إرضاع الكبير وهو سالم مولي أبي حذيفة، والتي انقضت بذهاب سياقها التاريخي.. وقضية إعلام المسافر لزوجته بعودته حتي تستعد للقائه وهي الفتوي أو القضية المنسوبة إلي فضيلة الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق. فما جدوي إثارة مثل هذا النوع من القضايا الآن؟ ولماذا ينغمس بعض إعلاميينا بحماس دونيكشوتي في مناقشتها، بل ويحتفون بكل من يرفع شارة التقدمية والتنوير والثورة علي كتب التراث، وهو لا يستطيع قراءة شيء منها فضلا عن دراستها ونقدها نقدا داخليا لفرز الحي المشع عن المنطفئ الميت منها، ولا شيء عنده إلا جرأة الجهل التي تدفعه إلي التهجم علي العلماء؟ لقد تخلي الشيخ أسامة القوصي عن فتوي جواز التلصص علي الخطيبة منذ عشر سنوات. وأوضح الدكتور علي جمعة وجهة نظره في قضية إعلام المسافر الغائب لزوجته قبل حضوره، وهو ما نص عليه الحديث الشريف: 'أمهلوا حتي تدخلوا ليلا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة'، ومخالفة بعض الناس لما أمر به هذا الحديث فدخل بيته علي حين غفلة فوجد رجلا غريبا في بيته، لا يعني ذلك أن هذا هو الغرض من الحديث. ومع ذلك يتم بعث هذه الفتاوي، والقضايا الاشكالية بل والتنقيب عليها لكي يصفي الإخوان المسلمون حساباتهم مع الدكتور علي جمعة والعمل علي تشويه صورته وكأنه يدعو إلي عدم العفاف والدياثة والعياذ بالله. إن الأزهر الشريف، وهو رمز الاعتدال والوسطية، له الدور الأساسيّ والأكثر فعالية واستباقية في التصدي لفوضي الفتاوي الشاذة، وانتشار الخطاب الديني من مستنقع القضايا الغيبية المفتعلة والافتراضية البعيدة عن الواقع وما يمور به من مشكلات حقيقية، وهو يقوم بهذا الدور منذ أكثر من ألف عام، والتطور العلمي والتكنولوجي في هذا العصر يدعوه إلي المزيد من الانفتاح علي مستحدثات تكنولوجيا الاتصال الحديثة، والتسلح بمنظومة المناهج النقدية الحديثة عند مواجهة النصوص، لما تمتاز به تلك المناهج من صرامة ودقة علمية. إن الاجتهاد الفقهي، وتجديد الخطاب الديني، ونضج الخطاب الإعلامي، منظومة لا غني عنها لعبور المأزق السياسي والاجتماعي والحضاري الذي تمر به مصرنا في هذه المرحلة الحرجة، بل أقول بالغة الدقة والحرج. ولكن للاجتهاد آليات ودقة تخصص وطول استعداد، والتجديد أمانة ومسئولية، والتراث هدية الأجداد، ينبغي أن يصان ولا يُبدد، وأن يُبعث ويجدد، وأول التجديد قتل القديم فهما كما قال شيخ المجددين أمين الخولي.