لم تعد ثقافتنا في الميزان.. كما كان يتردد في الزمن الجميل.. زمن الوفرة والغني، والتنوع الثقافي والفني العام.. كما تبدي علي أقلام كبار نقادنا ومثقفينا في الستينيات وفي المقدمة منهم د.محمد مندور، وإنما صارت ثقافتنا بعد عقود متتابعة من التجريف، والإفساد، والاستبداد، والغزو الفكري الحاد، الذي يتمسح بالدين ويمالئ السلطة المستغلة والمستبدة.. صارت تعاني أزمات لا حصر لها.. الأمر الذي نال من العقل والعقلانية وأوشك علي اقتلاعهما من حياتنا.. بعد أن زعزع قيم الانتماء والوطنية في زمني المخلوع والمعزول!! صارت معظم ثقافتنا وفنوننا كأنها حقول تعاني زمن التحاريق.. التيبس والجمود والقحط. عيدانها جفت، أرضها تشققت، لكأنه البوار والتصحر. وفوق ذلك طغيان التطرف الذي ينهش العقل، ويحيله إلي أداة غاشمة سريعة الاشتعال والتهور. لا أداة استنارة وتأمل واحترام الانسانية. الشواهد.. تشير إلي أن ثقافتنا في معظمها صارت غيبية.. صارت تغرد خارج العصر.. خارج قوانين العلم، وشروط الواقع للنهوض الكبير كما يتمناه الشعب المصري وقيادته في لحظته الراهنة. وهي لحظة مشحونة بالتحديات العديدة، والكبري.. وكأننا بثقافتنا 'المريضة هذه، نقبع علي مقربة من فوهة مدفع سريع الطلقات. أو كمن يجلس علي قمة بركان أوشك علي التحرك أمية 40%، فقر 40%، فقر مدقع 10%، بطالة 13% ومعظمهم من الشباب فإما أن نستسلم للغياب الطويل، وللهجرة القسرية والاجبارية كما عشناها في عصور سابقة، بعيدًا عن التنمية والاستنارة ومخاطبة العصر، وبالتالي نحيل حياتنا إلي جحيم. وندخل الكهف ونقفل علينا بالمفتاح!! وإما أن نقتحم بجسارة مشكلات الواقع ونواجهها، وننفض عنا التواكل والغفلة ومحاربة تحديات العصر بسلاح الفكر والعلم وأعمال العقل، ونحارب جميع الموروثات الضارة، والآفات الفكرية والسياسية والاجتماعية المتمسحة بالدين.. لا نخاف ولا نجبن.. وشراع الحرية للجميع.. والدعوة الحارة لمائة زهرة تتفتح دون تمييز أو عدوانية.. أو استقطاب أو تعصب أو استكبار.. وليكن شعارنا: الثقافة للجميع.. ولا للتكفير ولا للتخوين. من هنا تنبع أهمية وزارة الثقافة المصرية، ودورها الضروري والحيوي في إعادة صياغة الخطاب الثقافي العام في المجتمع وهو خطاب استفاقة وتنبيه وتحذير.. وللأسف الشديد فقد شهدت الفترة السابقة وهي فترة الثورتين 25 يناير 2011 و30 يونية 2013.. عدم اكتراث بالثقافة بدليل التغيير الذي تم في الوزارة دون مثيلتها وبلغ 6 وزراء!! علي أية حال.. إن المثقفين لعبوا دورًا بارزًا في إشعال الثورة ضد حكم المرشد الإخواني. يشهد علي ذلك اعتصامهم الذي استمر لما يقرب من 50 يومًا، والذي انتهي وهو يصب في مجري ثورة 30 يونية. ومن واقع التغيير الوزاري الأخير.. واختيار د.جابر عصفور لوزارة الثقافة وهو صاحب شعار، الثقافة كالماء والهواء.. علي نسق أستاذه د.طه حسين عندما قال: التعليم كالماء والهواء.. فإن آراء المثقفين تباينت بين معترض بشدة، ومؤيد متحمس، وربما يرجع السبب بالأساس إلي تاريخ د.'عصفور' في حقل الثقافة والوزارة فقد كان أحد أركان الوزارة القديمة زمن المخلوع وظل يلعب أدوارًا مختلفة بجوار 'فاروق حسني' بل يدافع عن تلك الاختيارات التي أودت بالحياة الثقافية المصرية الجادة. فقد ساد مصر ما كان يسمي بثقافة المهرجانات والصهللة! ولا عجب أن د.'جابر عصفور' لا يزال يدافع عن السياسات السابقة ل'فاروق حسني' فحسب وإنما يدافع عنه شخصيًا.. عندما يرفض تشخيصه بأنه أدخل كبار المثقفين في الحظيرة.. قائلا:ً إن حسني قالها مزحة.. ثم رددها البعض علي كونها كلمة جادة!! الغريب في الأمر.. أن د.'جابر عصفور' يؤكد أن سر ترشحه للمنصب يأتي من البرنامج الجاد والشامل الذي شرحه وهو قائم علي تضامن فعال بين خمس وزارات تحدث بهم ثورة حقيقية.. التعليم، والإعلام، والشباب والرياضة والأوقاف والثقافة.. ليعملوا معًا وفق منظومة فكرية وعلمية ناضجة تهدف إلي تشكيل خطاب ثقافي عام شامل وجذري. والسؤال: كيف لنا أن نصدق الرجل؟! هل نصدق التاريخ بوقائعه التي مضت، أم الحاضر الذي يتحدث عنه والذي لم يتشكل بالفعل بالأعمال؟! ولعل هذا السؤال وضعني في مأزق وأنا أتابع حديث د.جابر الطويل مع حمدي رزق في برنامج نظرة. والذي حاول فيه 'حمدي رزق' أن يسأله الأسئلة التي تشكل مأزقًا حقيقيًا وربما المسكوت عنها.. مثل كيف قبل د.جابر جائزة القذافي؟ وكيف رفضها اسميًا وقبل المقابل المادي لها؟! كيف وضعه الروائي صنع الله إبراهيم في مأزق بعد أن رفض جائزة الدولة في الرواية؟! ولماذا استقال من آخر وزارة في زمن المخلوع.. وهي وزارة أحمد شفيق؟ ومتي يستقيل من هذه الوزارة؟! الحقيقة إن إجابات د.'عصفور' تشي بأنه مثقف كبير.. لديه منطق من يمتلك باعًا طويلاً في تساوق السياسية بالثقافة.. بل يكاد أن يكون ناظرًا في المدرسة التي تعطي تبريرًا سهلاً ومريحًا للمعضلات الكبري!! نعم استطاع الرجل أن يخرج من المآزق بمنطق خاص حتي لو اختلفت مع أو حتي لو كان الواقع نفسه والمعطيات الكبري تنطق بعكس ذاك المنطق!! ولهذا ظللت أتساءل بيني وبين نفسي: هل يستطيع د.'جابر' صاحب الدعوة الحارة لمدنية الدولة.. والثقافة كالماء والهواء.. النهوض بخطاب ثقافي جذري عام.. شامل، مانع، جازم، خلال فترة ثلاثة أشهر وهي المدة المنتظرة لبقاء هذه الوزارة قبل تشكيل البرلمان الجديد، والذي يستوجب تشكيل وزارة جديدة؟! قلت لنفسي وأنا أكررها تباعًا: أفلح إن صدق!!