أتاحت لي زيارة بلجيكا، فرصة كنت أترقب حدوثها منذ زمن بعيد لزيارة العاصمة الفرنسية 'باريس'. وأتاحت التأشيرة الموحدة لدول الاتحاد الأوربي التحرك بحرية صوب حدود الدول الأعضاء في الاتحاد، دون أن يوقفك أحد، أو يطلب منك جواز سفرك، أو يتفحص أوراقك، باحثًا عن سبب توجهك إلي هذه الدولة، أو تلك. وكان ظهر الجمعة قبل الماضي، هو يوم مغادرة الوفد الصحفي المصري للعاصمة البلجيكية بروكسل، خاصة بعد أن انتهت مهمتنا التي وفدنا من أجلها، غير أنني صممت علي استثمار الفرصة، والتخلف عن أعضاء الوفد في السفر، وتأخير عودتي ليوم واحد عن زملائي، حتي يتسني لي زيارة العاصمة الفرنسية 'باريس'. منذ يوم الخميس، رحت - بمعاونة صديقي الأستاذ أحمد صلاح، المستشار الإعلامي لسفارة بروكسل - أرتب إجراءات تأجيل المغادرة، وفي مقدمتها تأجيل موعد السفر ليوم كامل، ومن ثم 'مد' فترة الإقامة بالفندق لليلة أخري. ودعت زملائي من أعضاء الوفد الصحفي عند الثامنة صباح الجمعة، وعند الثامنة والنصف تمامًا كنت أنطلق، مستقلًا سيارة أحد الأصدقاء باتجاه 'باريس'. من قلب 'بروكسل' ومن أمام فندق 'Royal Windsor' تحركنا، بعد أن سجل صديقي العنوان المستهدف الوصول إليه في العاصمة الفرنسية، وهو 'شارع الشانزليزيه' أشهر شوارع 'باريس' والعالم.. عبر خريطة ال'GPS' قُدنا طريقنا باتجاه 'باريس' إلي الجنوب من 'بروكسل' حيث تبلغ المسافة نحو '320' كيلو مترًا، قطعناها في نحو الساعات الثلاث.. في رحلة ممتعة، وهادئة، لم نتعرض فيها ل'مطلب واحد' ولم نشهد حادثة واحدة بطول الطريق الفسيح، الذي بدا مبهرًا للغاية، من اتساعه، ورونقه الهادئ، والأشجار التي تحيطه من كل اتجاه. 'لا شيء هنا يُترك للصدفة' حسب تعبير مرافقي في الرحلة، فكل شيء أعد بإحكام ونظام دقيقين.. الشوارع تمنح مرورًا سهلًا، وسلسًا، والرادار ينبهك إذا ما اقتربت من تجاوز السرعة المقررة، والبوابات الإلكترونية تعمل بنظام الكارت، ودون وجود أفراد، وحتي محطات البنزين لا أشخاص يديرونها.. فكل ما عليك أن تفتح 'تنك' البنزين الخاص بسيارتك، ثم تملأها، وتضع الفيزا كارد الخاصة بك في المكان المحدد للحساب، والمغادرة. السائقون علي طول الطريق 'مهذبون'، كل يسير في طريقه، باتجاه محطة وصوله، دون تزاحم، أو تسابق، أو اندفاع. عند الحادية عشرة والنصف من صباح يوم الجمعة، كنا قد بلغنا قلب 'باريس'، وبصعوبة بالغة، وجدنا مكانًا تركنا فيه السيارة بشارع 'الشانزليزيه' هذا الشارع الذي فاقت شهرته بلدان الدنيا، وبات مقصدًا لكل من يأتي إلي بلدان أوربا. رغم طول الشارع، وتمدده، واتساعه، فقد قطعناه عدة مرات.. ذهابًا وإيابًا من بدايته عند 'قوس النصر' حتي نهايته عند 'ميدان الكونكورد' أكبر ميادين فرنسا والعالم. تجولنا بين المحلات والمقاهي والمطاعم الشهيرة، وتناولنا الإفطار في 'Salon de tai' أحد أشهر الأماكن بالشانزليزيه، والتقطنا الصور التذكارية بجوار 'قوس النصر' وتمثال البطل الفرنسي 'شارل ديجول' الذي يحتل موقعًا متوسطًا من الشارع الشهير. وعند نهاية 'الشانزليزيه' توقفنا عند 'المسلة المصرية' التي ترتفع بفخر وزهو في أكبر ميادين فرنسا والعالم 'ميدان الكونكورد'.. تأملت المسلة، وسط مئات الزوار الذين يفدون لزيارتها من أنحاء العالم، وكم شعرت بعظمة مصرنا في تلك اللحظات، وأنا أقرأ علي جدرانها تاريخ العثور عليها في 'مصر'، ونقلها إلي 'باريس' مصحوبًا برسوم توضيحية حول طريقة نقلها حتي استقرت في موقعها في أهم الأماكن في فرنسا. ومن ميدان 'الكونكورد' إلي 'متحف اللوفر' أحد أشهر المتاحف في العالم، الذي يضم في داخله العديد من الآثار المصرية، والتي حملها الفرنسيون خلال حملتهم علي مصر. بدا 'اللوفر' مهيبًا، باتساعه، وتعدد مبانيه، وكثافة زواره.. لقد أذهلني حجم الحضور، والزيارة، ورحت أتحسر علي 'متحفنا المصري'.. الذي لا تُقارَن عظمته باللوفر، ومع ذلك يبقي مهجورًا بفعل الأحداث التي تضرب البلاد بين الحين والآخر. كانت وجهتنا الأخيرة إلي برج 'إيفل' حيث التحفة العالمية الفريدة التي شيَّدها المهندس الفرنسي.. قطعنا أكثر من الساعة، سيرًا علي الأقدام في شوارع العاصمة الفرنسية، تعرَّفنا علي طبائع الحياة في 'باريس'.. المكتبات العريقة، والمقاهي المنتشرة في كل مكان، والمحلات، والشركات العالمية، وأرقي محلات العطور والسيارات.. كل شيء يتلألأ في عاصمة النور، التي تزخر بحياة بديعة، ومتجددة. حتي بلغنا برج 'إيفل'.. كانت حشود هائلة من الزوار تأخذ دورها نحو صعود البرج التاريخي، فيما راح المئات يصعدون البرج الهائل، سيرًا علي الأقدام. إستغرقت زيارتنا للبرج نحو الساعة، أو يزيد.. وحين اقتربت سحب الظلام، بدأنا في مغادرة المكان باتجاه السيارة.. قطعنا أكثر من الساعة في العودة إلي السيارة.. حيث انطلقنا في رحلة العودة، بعد تسع ساعات قضيناها داخل 'باريس' في رحلة 'مبهجة' لعاصمة، كانت ولا تزال جزءًا رئيسًا من تاريخ العالم، قديمه وحديثه.. عند نحو العاشرة، استقرت بنا السيارة، مجددًا، أمام فندق 'رويال ويندسور' بعد رحلة مثيرة، طُبعت بصماتها في الذاكرة، وستبقي.. ما بقيت الحياة.