لم يكن الطفل روليهلالا داليبونجا مانديلا ابن السبعة أعوام يدرك أثناء لهوه حول منزله كل صباح انه سيصبح يومًا أيقونة الصمود والنضال في العالم.. روليهلالا الذي منحه أستاذه في المدرسة اسم نيلسون اعتاد ان يخرج من قريته الفقيرة المتاخمة لمقاطعة بريتوريا إلي الطريق العام لينتظر السيارات الفارهة التي يملكها أبناء الأقلية البيضاء وأرباب الرقيق الأبيض ويلقي عليها الحجارة ثم يفر هاربا.. وذات يوم وأثناء ممارسته هوايته المفضلة نصب أحدهم له كمينًا حيث ترجل من السيارة قبل الموقع الذي اعتاد فيه نيلسون إلقاء الحجارة علي سيارات البيض فيما استمر الآخر في قيادة السيارة وعندما بدأ الطفل الثائر في إلقاء الحجارة توقفت السيارة فجأة فأدرك نيلسون انه وقع في الفخ فأطلق، ساقيه للريح هربًا لكنه وجد نفسه في قبضة الرجل الأول الذي أذاقه علقة ساخنة ركلًا وضربا ولم يرحم طفولته وهم بإطلاق الرصاص عليه إلا ان زميله منعه مكتفيًا بما ذاقه الطفل الصغير من ألم ومذلة، وعندما أصبح الطفل شابًا يافعًا لم ينس تلك الواقعة وظل يرددها علي مسامع المقربين ومن يومها قرر تجنيد نفسه لتحرير بلاده من الرق. وشب نيلسون مناضلًا ضد العنصرية وأسس عام 1952 أول مؤسسة معنية بحقوق السود وهناك التقي رفيقي النضال اوليفر تامبو ووالتر سيسولو.. وتم تكليف الثلاثي فيما بعد بتأسيس الجناح المسلح لمنظمة المؤتمر الوطني الافريقي عام 1961 وتلقي أعضاؤه تدريبات مكثفة في كل من الجزائر وإثيوبيا ونفذ هذا الجناح عمليات مؤثرة ضد حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مما دفعها إلي تكثيف جهودها لإعتقال مانديلا عام 1964 وحكم عليه بالسجن مدي الحياة وتم سجنه لمدة 18 عشر عامًا في سجن بجزيرة وسط البحر إلي ان تم نقله إلي سجن آخر شديد الحراسة بالقرب من جوها سبرج بعد اندلاع ثورة السود في بلدة سويتو التي كانت مقرًا للمؤتمر الوطني الإفريقي.. ومنذ عام 1964 وبعد سجنه أصبح نيلسون مانديلا رمزًا للنضال الوطني في العالم ونورًا يسير علي دربة كل الأحرار والثوار والمناضلين داخل افريقيا وخارجها وأصبح اسم مانديلا مقترنًا بالنقاء الثوري، فالرجل الذي تم سجنه لمدة 27 عامًا في غرفة منفردًا وكان يمر عليه 'حسب تعبيره' شهورًا عديدة لا يري فيها حتي سجانه الذي كان يترك له الطعام خلف باب الزنزانة دون أن يراه أصبح مرادفًا لمعني الوطنية الشريفة في العالم، وفي عام 1990 تم الإفراج عن الزعيم وبعدها بأربعة أعوام وفي عام 1994 أصبح السجين التاريخي رئيسًا لبلاده ودعا إلي المصالحة والمصارحة وأعطي البيض الامان ووعدهم بعدم الانتقام رغم ما ارتكبوه من مذابح بحق السود في سويتو وبريتوريا وغيرهما ومضي الرئيس الثائر في إعادة ترتيب الأوراق وساعده في ذلك الاقتصاد القوي للبلاد الذي لم يتأثر بالصراع بين السود والبيض ودعا مستثمري العالم إلي الاستثمار في بلاده التي تتمتع بموارد طبيعية جاذبة وأصبحت جنوب افريقيا محورًا اقتصاديًا في العالم ومركزًا مهمًا للمؤتمرات علي المستويين الاقليمي والدولي وسارعت أوربا إلي تأسيس شركات ضخمة متعددة الجنسيات في هذا البلد الذي كانت رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت تاتشر تعتبره جزءًا من أوربا. ومضي الزعيم إلي التفرغ لحل المشكلات المجتمعية التي تهدد الكيان الديموجرافي لبلاده وأبرزها أزمة مرض الإيدز حيث تعتبر جنوب افريقيا أعلي بلد في العالم يضم حاملي فيروس هذا المرض اللعين وبعد ان خطف المرض ابنه الأصغر قرر الرئيس رصد أموال ضخمة لمكافحة الفيروس القاتل طالبًا مساعدة الدول الأوربية التي لم تتوان عن تقديم يد العون له وأصبحت جنوب افريقيا مركزًا مهمًا لمكافحة المرض ودعمتها بريطانيا بمعامل ودراسات حديثة عن المرض الذي انحصرت نسبته بفضل نشر الوعي وتثقيف السكان وتعريفهم بمخاطره المميتة. وساعد مانديلا اتحاد كرة القدم في بلاده علي أعداد ملف قوي تقدمت به جنوب افريقيا إلي الفيفا لتنظيم بطولة كأس العالم عام 2010 ونجح في ذلك وبكي وهو يحمل الكأس التي زارت جوهانسبرج قبل انطلاق البطولة في جولتها العالمية المعتادة وكان افتتاح البطولة هو المناسبة الأخيرة التي ظهر فيها مانديلا أمام الكاميرا بعد ان اعتزل السياسة في عام 2004 تاركا الدفة لجيل أصغر من السياسيين قادرين علي حمل الراية من بعده وأبرزهم ثامبو مبيكي والرئيس الحالي جاكوب زوما وغيرهما إلا انه ظل المرجعية الكبري لهؤلاء إلي ان بدأ يفقد التركيز والتعرف علي من حوله وفق تصريحات سابقة للرئيس زوما أدلي بها منذ عدة أشهر.. وبعيدًا عن السياسة فلم يعش المناضل الكبير حياة مستقرة، قبل سجنه تم طلاقه من زوجته الأولي إيفلين وبعد خروجه من السجن تسببت شائعات الخيانة الزوجية في طلاقه من زوجته الثانية ويني التي قالت عنها الصحف الجنوب إفريقية انها لم تكن الزوجة 'الملتزمة' التي تليق بزعيم بحجم مانديلا فلم تحفظ غيبته وبلغ استهتارها انها ظهرت في أكثر من مكان يعج بالملاهي الليلية مع أصدقائها في الوقت الذي كان فيه زوجها يعاني أشد لحظات السجن قسوة إلا ان اتهام ويني بفضيحة أخلاقية كان القشة التي قصمت ظهر البعير فتم الطلاق في عام 1992 بعد زواج استمر لمدة أربعين عامًا وبعد انفصال الثنائي نيلسون وويني بحث الرئيس عن رفيقة تؤنس وحدته بعد تقاعده وخروجه من الرئاسة ووجد في أرملة صديقه الرئيس الموزمبيقي الراحل سامورا ميشيل ما أراد فتزوجا وعلي الرغم من ان زواجهما لم يدم طويلا ولم تنجب منه فإنه كان يردد دائمًا 'وفق إحدي الصحف الهندية' انه لم يلق الراحة إلا مع ماريز جارسا. ولسوء حظنا في مصر ان وفاة مانديلا جاءت في لحظة تمر بها مصر بأيام صعبة، صحيح ان الرئاسة أعلنت الحداد لمدة ثلاثة أيام فإن الصعوبة تكمن في جهل وتنطع ميليشيات الإخوان الالكترونية التي شبهت الرئيس المعزول محمد مرسي بمانديلا، علي الرغم من ان آداب المهنة وميثاق الشرف الصحفي يمنعاننا من الرد المناسب علي هذه الهرطقة فإن الفرق واضح للجميع، فهناك فارق كبير بين المناضل والثائر الحق الذي تم سجنه لمدة 27 عاما متصلة وبين أرزقية النضال 'وفقًا للتعبير الشهير لعمنا الراحل محمود السعدني' الذين تم إخراجهم من السجون عنوة وعن طريق ميليشياتهم الحمساوية المسلحة. كما ان هناك فرقًا بين من يملك رؤية سياسية تمكن بلاده من استعادة عافيتها ومن يملك رؤية التمكين لجماعته علي حساب بلاده التي قال أحدهم عنها في الماضي: 'طظ'.. كذلك هناك فرق جوهري بين مانديلا والمعزول هو ان الأول كان فقيرًا معدمًا داخل السجن وخارجه لكن الآخر وجماعته حيدت لهم الدنيا بحذافيرها وكانت الأموال تتدفق 'وما زالت' من تركيا وقطر لتفتيت وإشاعة الفوضي في البلاد.. كذلك لم يتم اتهام مانديلا بالتخابر ضد مصلحة بلده ولم يأمر بإطلاق الرصاص علي رعاياه من الشعب، لانهم تظاهروا ضده كما أنه لم يكن فاشيا بالفطرة وغض الطرف عن قمع وقتل للمتظاهرين أمام قصره وإطلاق الخرطوش علي الصحفيين. لذلك من العيب التشبيه بين الرجلين علي الرغم من اننا نستطيع ان نؤكد ان الرئيس المعزول لم يكن يعرف اصلا من هو نيلسون مانديلا لأنه لم يعرف هو وميليشياته الالكترونية الموقع الحقيقي لقادة عشيرته بين مناضلي القارة السمراء مانديلا وسيكوتوري وباتريس لومومبا وأحمد بن بيلا وليبود سنجور وغيرهم.. الإجابة وفقًا للتعبير الأشهر للزميل الكبير محمود الكردوسي.. لا مؤاخذة.. في مزبلة التاريخ!!!