أبانت أحداث وتطورات الربيع العربي، إننا جميعا بحاجة أن نعيد صياغة علاقتنا مع القوي الاجتماعية والثقافية والسياسية المتوفرة في الساحة. وإن عمليات العنف والإقصاء التي تمارسها النخب السائدة ضد القوي السياسية الجديدة، يساهم بشكل رئيسي في تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويصحر الحياة العربية السياسية والثقافية، ويدفع بالأمور إلي صدامات لا تخدم الاستقرار والتنمية في العالمين العربي والإسلامي. وإن بروز نزعات التطرف والتشدد، ليس فقط وليد القراءة المتزمتة للدين، بل هو أيضا وليد المناخ السياسي والثقافي الذي تعمل فيه هذه الحركات.. لذلك نجد حينما نتأمل بعمق في مسيرة الحركات السياسية الإسلاممنها: العديد من الدول إن الأنظمة والحكومات التي فسحت للقوي السياسية المتوفرة في الساحة للعمل والنشاط القانوني، واعترفت بكل التيارات السياسية، نجد أن مستوي الاستقرار وضمور نزعات التطرف والتشدد في التيارات السياسية بارزا. بعكس الدول التي منعت التيارات والأحزاب من العمل السياسي العلني والقانوني، وتعاملت مع هذه الظاهرة برؤية أمنية بحتة، نجد في هذه التجارب أن نزعات التشدد والتطرف تبرز وتعبر عن نفسها بوسائل مختلفة وذلك لأنه رد فعل طبيعي لقمع الأنظمة وتصفيتها سياسيا واجتماعيا. ويأخذ التعامل الأمني مع الظاهرة الإسلامية الحديثة صورا شتي منها: التضييق والتعسف الذي يطال رموز وكوادر هذه الظاهرة المعاصرة، والتعامل معهم علي قاعدة ' متهم حتي تثبت براءته '. والتضييق يبدأ بالمنع من ممارسة دوره وحياته العامة، مرورالظاهرة، إلي مراقبة أمنية دقيقة لإرباكه وزرع الخوف والهلع في نفسه ونفوس المحيطين به، وإنتهاءا بالاعتقال التعسفي بدون مبررات قانونية. عدم الاعتراف القانوني والسياسي للتشكيلات الحديثة لهذه الظاهرة، والعمل علي منع أي عمل جماعي أو مؤسسي، يعبر عن توجهات هذه الظاهرة. الانخراط والاندراج في حرب أمنية وسياسية وثقافية مع هذه الظاهرة ورموزها وكوادرها. ويبدأ هذا الانخراط في المنع والتضييق بكل أشكاله، مرورا بإجهاض أي نشاط ثقافي أو سياسي تقوم به هذه الجماعات وممارسة حروب الأوراق الصفراء ضد مشروعاتها وشخصياتها. ولا تنتهي هذه القائمة إلا بمواجهة حاسمة وغير متكافئة مع هذه الظاهرة فالتعامل الرسمي في العديد من البلدان العربية مع ظاهرة الإسلام السياسي، هو تعاملا ظالما وعنيفا وإستئصاليا، ويسعي وفق مخطط مدروس ومرسوم إلي اجتثاث هذه الظاهرة من الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي للوطن والأمة. وبفعل هذا النمط من التعامل ومسوغاته الأمنية والسياسية، تم إرساء دعائم الدولة الاستبدادية المطلقة، التي تغّولت في كل مجالات الحياة، وألغت أو تحكمت في كل مؤسسات المجتمع الأهلي. ومارس بعض المثقفين في هذا الإطار دورا خبيثا وخطيرا، حيث برر للسلطة نهجها الأمني والإستئصالي، وسوغ للجميع النهج الاستبدادي الذي أرست دعائمه وحقائقه الدولة في المجال العربي. ولا بد من الإدراك في هذا الإطار، أن التعامل العنقي ووالعامة، مع ظاهرة الإسلام السياسي، والإسناد الذي توفر لهذا التعامل من قبل بعض النخب الإعلامية والثقافية قد ساهم في هيمنة الدولة وتكريس نهج الإلغاء الذي وصل إلي جميع الأطراف والمجالات. وإن إقصاء تعبيرات الإسلام السياسي من الحياة السياسية والعامة، له الأثر الكبير في استمرار المآزق السياسية والاجتماعية في الواقع العربي، وذلك لأن عملية الإقصاء المذكورة، أفضت إلي توترات مجتمعية وسياسية، وأدخلت الجميع في دهليز المعالجة الأمنية للمشكلات السياسية والاجتماعية القائمة. والمعالجات الأمنية بطبعها والآليات المستخدمة فيها، تؤدي إلي توتير الأجواء وتفاقم الأزمات والمشكلات، والدخول في متاهات الحروب الداخلية المميتة لكل حيوية وحياة. وإن شرط الخروج من هذه المآزق هو ' النجاح في إقامة دول ديمقراطية يمثل شرطا للخروج من الأزمة العربية، إلا أن العلاقة بين الدولة وما يسمي بالمجتمع المدني وتعبيراته ما تزال تثير الكثير من الجدل، ولا سيما في ظل الحاجة إلي تحرير المجتمع من طغيان الدولة، من جهة، والخطورة الكامنة في الدعوات والمساعي الرامية بالتجاوب مع ظرف دولي مؤات وبحجة تفعيل دور المجتمع إلي إضعاف دور الدولة العربية والانتقاص من سيادتها وتحريرها من وظائفها، ولا سيما في ميدان التنمية والضبط الاجتماعي '. ' راجع ندوة تجديد الفكر السياسي من أجل التغيير 0 ص 156 '. ولا ريب أن تحقيق النمط المؤسسي في إدارة أمورنا المختلفة، ليس بالأمر السهل واليسير، بل هو يحتاج إلي الكثير من الجهود المتنوعة، التي ترسي بعد زمن قواعد المؤسسة في واقعنا الاجتماعي، وتوجد نوعا من المواءمة الواعية بين ضرورة المؤسسة في إدارة شؤوننا وأمورنا، وبين هامش الحرية الذي ينبغي أن يتاح للفرد ومبادراته. وإن رفع هذه الهواجس، لا يتم إلا بتدشين حياة سياسية جديدة تشارك فيها كل القوي والفعاليات بدون استثناء، في إطار دستوري وقانوني، يكفل للجميع هذه الممارسة، ويمنع كل التعديات والحقائق التي تعرقل سيادة القانون والديمقراطية. فلا ديمقراطيهنا، ن حياة حزبية وسياسية فاعلة، تطرد حالة الجمود وتستوعب تحولات المجتمع ومتغيراته، وترفد الواقع بالخطط والاستراتيجيات الواقعية والكوادر البشرية القادرة علي ترجمة التطلعات وإنجاز الوعود. وأكرر القول هنا، أن الديمقراطية ليست حلا سحريا لكل مآزقنا ومشاكلنا، ولكنه لا يمكن أن تكون هناك تحولات وتغييرات حقيقية بدون الديمقراطية التي لا تستثني أحدا، ولا تمارس عملية الإقصاء والنفي تحت أي مبرر ودعوي. وإن توفر الخصوصيات في أي مجتمع أو بيئة اجتماعية، لا يلغي أهمية مشاركة الناس في تقرير مصيرهم وإدارة راهنهم وصياغة مستقبلهم، عبر أطر ومؤسسات تستوعب الجميع وتعطي حق المشاركة للجميع علي قدم المساواة مع الآخرين. لذلك فإننا بحاجة إلي أن نبلور خطابا ثقافيا متكاملا، يبلور الإمكانات المتاحة في فضائنا المعرفي، للانتقال من نمط الاختزال في العقلية الاجتماعية، إلي نمط العقل الجمعي في التفكير وإدارة الأمور. وهذا بحاجة إلي إعادة الاعتبار إلي مفهوم الاختلاف، فهو حالة طبيعية ومتناغمة مع نواميس الوجود الإنساني. إذ اقتضت مشيئة الله أن يخلق الناس مختلفين متباينين في قدراتهم الفكرية، وفيالفطرية، وأذواقهم، فتختلف بسبب ذلك أنظارهم ومفهومهم. ويعطي هذا الاختلاف والتنوع للحياة مظهر التجدد، ويبعدها عن التكرار والرتابة، ويمكن من تنويع الإنتاج الإنساني، ومن تكثير الصور الفكرية للموضوع الواحد.ويظل هذا الاختلاف المنتج للتنوع إيجابيا ومفيدا ما دام نابعا عن تلك الفروق الفطرية، وعن التباين الموضوعي في البحث عن الحق. وبهذا فإن الاختلاف في حالشرع، طبيعية، هو أصل الوحدة، ومنبع التقدم والتطور، وما علينا إلا أن ننزع من أذهاننا روح التشاؤم، ونعمق روح الثقة بالعقل والإنسان عندئذ يصبح الحوار ونحن مختلفون ممكنا، ويصبح الاحترام المتبادل شرطا لاستمرار هذا الحوار. فالاختلاف الذي يسمح به الشرع، هو نتيجة طبيعية ومنطقية لمشروعية الاجتهاد، لأنه من المستحيل القبول بالاجتهاد دون القبول بآثاره التي من جملتها اختلاف أنظار المجتهدين.