عرفت باريس بأنها مدينة النور ورغم ذلك فاهم ما يميزها هو أنها مدينة العمل والجهد والمثابرة والعلم والتكنولوجيا وهي عاصمة تمتلئ عن آخرها بالجاليات والجنسيات المختلفة، وكلهم يمتزجون ويختلطون مع بعضهم البعض بدون حساسية أو احتكاك أو حزازات رغم ظهور العنصرية في السنوات الأخيرة ولكنها تظل عنصرية مبطنة وغير معلنة, ورغم ذلك فقد جعل الباريسيون مدينتهم خالية من كل أنواع العنف وجعلها عمدة باريس برتيلاند دي لانوي مدينة بيضاء ومفتوحة للجميع ومرحبة بكل الملل والثقافات وتحافظ علي العادات والتقاليد, إنها مدينة تستطيع أن تسير فيها وأن تتمشي أني شئت وكيفما شئت دون أن تشعر بحرج أو مضايقة لأنها مدينة تمتص كل تيار غريب يذوب فيها دون أن تفقد هي شخصيتها المميزة.و تنقسم باريس إلي عشرين منطقة كل منها عبارة عن حي له مقر بلدية ومركز للشرطة ومكتب للبريد.ويقام في كل حي من مناطقها العشرين سوقا شعبية ثلاثة أيام من كل أسبوع . وتحيط بباريس أيضا المدن الشهيرة وتسمي ضواحي باريس وهي تتشابه معها في التقسيم الإداري والعادات والتقاليد وإقامة الأسواق, ولكل حي من تلك الأحياء ما يميزها عن غيره بما له من طابع ورونق خاص لا يمكن إنكاره. ورغم ذوقها الرفيع فأنها تحافظ وتهتم بالعادات والتقاليد والثقافات الشعبية التي تحافظ علي تواصلها الثقافي و لذلك تجد اهتمام الفرنسيين كبير بإقامة الأسواق الشعبية في الأحياء الباريسية والمدن الفرنسية بصفة منتظمة وهي أسواق مفتوحة لكل أجناس العالم وفرصة للرواج الاقتصادي والاحتكاك الثقافي وزيادة روابط المحبة والصداقة بين الجنسيات المختلفة , وفرصة كبيرة أيضا لمحدودي الدخل من الأجانب والفرنسيين لشراء وقضاء حاجاتهم من السلع الضرورية وكافة ما يحتاجونه بأسعار رخيصة تقل كثيرا عن نظيرتها في المحلات, وتناسب محدودي الدخل والفقراء, وقد كانت تلك الأسواق فيما مضي وحتي فترة الخمسينات من القرن الماضي قاصرة علي الفرنسيين أنفسهم, وكانت المنتجات الزراعية والحيوانية وغيرها من السلع المصنعة الفرنسية, وتدريجيا ومع وفود الجاليات العربية والأجنبية وبخاصة من الدول التي كانت تستعمرها فرنسا , دخل التجار الأجانب إلي الأسواق وبدأت نهضة جديدة وزبائن جدد, فتغيرت الأسواق وانفتح الفرنسيون علي منتجات الدول الاخري وامتددت رقعة الأسواق بسبب إصدار التراخيص, وبدأت بلديات الأحياء والمدن بالاهتمام بالأسواق الشعبية وحددت مواعيد العمل بها والتي تبدأ من الرابعة والخامس صباحا وحثي الثانية ظهرا, بعدها يقوم عمال النظافة بنظافة المكان وعودته إلي رونقه كما كان , وعادة ما تقوم الجهات المعنية ليلا بإقامة النصابات الحديدية المغطاة ليلا ' بأيام السوق ', وهي نصابات تستوعب كل التجار المرخص لهم للعمل بالسوق بمختلف أنشطتهم كلا حسب موقعه ويبدأ هؤلاء التجار والعمال بالوفود إلي السوق من الرابعة صباحا لتفريغ شحناتهم ويقومون بعرضها بشكل جميل ويكتبون الأسعار بصورة جذابة ومعظم هذه النصابات تكون لتجار الخضر والفاكهة بكل أنواعها إلي جانب الأنشطة المختلفة وبعض الحرف اليدوية التي تراها بالأسواق. ومع أواخر السبعينات من القرن الماضي بدأت هجرة المصريين إلي فرنسا وكان معظمهم من خريجي الجامعات والمعاهد العليا , ومن أهم الأعمال التي استهوتهم هي العمل كعمال عاديين في تلك الأسواق نظير أجور زهيدة, ومع الاجتهاد والمثابرة والتوفير بدأ هؤلاء تدريجيا في فهم تلك الأنشطة وبخاصة ترددهم علي السوق التجاري الدولي ' الرنجيس ' ومشاهدة مناطق الاستيراد وبيع الجملة لتلك المنتجات علي الطبيعة وطريقة الشراء والفصال وعملية نقل السلعة بالشاحنات من الرنجيس إلي الأسواق وطريقة عرضها وبيعها, فشعر المصريون بأهمية وجودهم بالأسواق وخاصة أنهم جلبوا أنظار الزبناء بسب ندائتهم بالطريقة المصرية لترويج السلع, وبدأ الكثيرون منهم بشراء المواقع من التجار العرب والفرنسيين بالأسواق وتدريجيا فقد سيطروا علي الكثير من الأماكن وأصبحوا ملوك تلك الأسواق بعد أن قبضوا سيطرتهم علي معظمها وتحكموا فيها, وأصبحت نداءات الباعة المصريين وحتي العمال من العرب تشعرك بأنك في احد الأحياء الشعبية المصرية وبخاصة في أسواقها الشهيرة, فأعطوا للأسواق البهجة والمرح والحياة, فكثرت الأنشطة وكثرت معها الزبناء, وبسب التنافس الشديد فيما بين التجار تم تقليل الأسعار بصورة مذهلة وتقليل هامش الربح نظير مبيعات كثيرة وانفتح السوق التجاري الدولي علي مصراعيه أمام التجار المصريين وبدأت أصحاب المطاعم المنتشرة في باريس وضواحيها في أخد احتياجات المطاعم من هؤلاء التجار الذين حققوا نجاحات باهرة علي مستواه الاقتصاد الفرنسي , وكان من بين هؤلاء التجار الناجحين 'محمد الألفي 'من منطقة الأميرية بالقاهرة مواليد 1965م, جاء إلي فرنسا عام 1983 في البداية ظل يتردد في العمل بالأسواق باجر زهيد لمدة خمس سنوات لم يكن يحمل فيها الأوراق الرسمية وكانت من أصعب سنوات عمره عندما كان يعمل ويخشي البوليس الفرنسي بسبب مخالفة الإقامة, وبسبب إخلاصه وتفانيه في العمل وتقوي الله حصل علي الأوراق عام 1986م استطاع بعدها العمل بالأسواق بشكل رسمي واستطاع الحصول علي مكان مخصص له في احد الأسواق الباريسية ودفع فيها تحويشة السنوات الخمس وبدأ العمل لحسابه حسب قوانين العمل الفرنسية, وبدأ شراء سيارة نقل كبيرة لنقل السلع من الرنجيس إلي السوق وتدريجيا بدأ في شراء أماكن في أسواق أخري فانضم إليه كلا من شقيقه ' عبدا لله الألفي' و'عبدا لحليم الألفي' اللذان جاء إليه من مصر فواصلو ثلاثتهم النجاح الغير منقطع النظير, ومن داخل احد الأسواق الشعبية الشهيرة في احد الضواحي الباريسية ' سوق بورت دي سان توان ' يقول محمد من داخل نصبته الساعة السابعة صباحا أن من أصعب الأشياء في تلك المهنة ' بيع الخضر والفاكهة ' أنها تتطلب الاستيقاظ للعمل في الرابعة صباحا وسط برودة الجو الشديدة التي تتميز بها أوربا, فمنا من يذهب إلي الرنجيس لشراء السلع المطلوبة , ومنا من يذهب إلي السوق لتجهيز النصبة وعرض السلعة بشكل جميل , أنها مهنة تتطلب الجرأة بسبب المنافسة الشديدة فيجب أن تكون السلع جذابة ومغرية ورخيصة في نفس الوقت. وهي مهنة تتطلب قدرات خاصة للتعامل مع التجار الكبار بالرنجيس, وكذلك مع الزبناء وأكثرهم من العرب والأجانب والفرنسيين, ثم يستطرد قائلا استطعنا بعون الله كمصريين السيطرة علي الكثير من الأسواق الفرنسية وهذا العمل يتطلب أن يقوم العمال بالنداء علي الخضر والفاكهة بالطريقة المصرية علي ايقاع فرنسي لجلب الزبون الذي تعود أن يسمع تلك النداءات قبل أن ينجذب ويقبل علي الشراء , ومحمد الألفي كما اتضح هو شخص رحيم طيب القلب والدليل انه يفتح بابه من طالبي العمل وكسب لقمة العيش من أبناء الجالية المصرية والعربية وغيرها فوجدنا من يعمل معه من هؤلاء ومنهم 'منير بيجي – وخالد التونسي ' من تونس , ومن المصريين مصطفي عبد الفتاح من الغربية, وكذلك محجوب المغربي من المغرب, ومسيو لوي من فرنسا, لذلك يعتبر محمد الألفي نموذجا مثاليا للحب والتسامح وفتح باب الرزق للأخريين من كل الجنسيات هذا برغم أزمة البطالة التي تعيشها فرنسا. وكان من أهم معروضاته من الخضر ' الطماطم والفلفل والكوسة والباذنجان والبسلة والجزر والبقدونس والخس بأنواعه ' ومن الفواكه البرتقال واليوسفي ' فواكه الشتاء ' والفراولة والخوخ والعنب والكيوي. وكلها من أجود الأنواع التي لا تنقطع طوال العام . وعن مصر وثورة 25 يناير وثورة الثلاثين من يونيو يقول محمد نأسف لكل الأحداث التي عاكست الثورة وسعت إلي إجهاضها وما فعله الإخوان ومرسي بها, ولكن الثورات وكما علمنا التاريخ تتطلب التضحيات من أبنائها ونحمد الله علي ما وصلنا إليه عندما تخلصنا من حكم الإخوان وخيانتهم العظمي للوطن ونتمني أن يزول عن مصر شرهم وأن تتم محاكمتهم بسرعة لنقضي علي الفتنة وننتبه إلي جيشنا ووطننا قبل مكر الماكرين وغدر الغادرين وتربص الدول الكبري لنا وهذا يتطلب أن نلتف جميعا حول جيشنا ورئيسنا الحالي حتي نعيد الأمن والأمان والاستقرار لبلدنا سريعا لكي يعود العمل والبناء ويعود الاقتصاد وتعود بالتالي مصر التي نتفاخر بها نحن المهاجرين أمام العالم وأمام كل الجنسيات لأنها غالية علي قلوبنا ونحزن علي ما يحدث بها الآن علي أيدي أناس محسوبين عليها واسمهم الإخوان إلا أن الدين من أفعالهم تلك براء ونحن أيضا ندينهم ونستنكرهم ونتمني أن يتركوا مصر لأبنائها المخلصين ويرحلوا ببدعهم وأباطيلهم عنها, ولولا الغربة التي أبعدتنا في ظروف صعبة اضطررنا بسببها لترك أوطاننا, ونتمني أن يظل الجيش المصري حاميا لثورتنا حتي تصل بلادنا إلي بر الأمان , ونتمني أن يعود الأمن والأمان إلي مصر وتدور عجلة الإنتاج حتي نري حياة أفضل لأبنائنا, لان الوطن يظل هو الملاذ الوحيد لنا مهما طالت الغربة ويختتم محمد حديثه بقوله إن مصر تظل عزيزة علينا وغالية علي قلوبنا