بعد الحرب العالمية الثانية، ألقت 'الولاياتالمتحدةالأمريكية' بثقلها في مصر، لِتُراقبَ الأمور فيها عن كثب، وتُعِدّ نفسها لِتَرِثَ الإمبراطورية البريطانية التي كانت شمسها تتجه نحو الغروب! فبدأت تهتم بالصحافة، والمثقفين، والأكاديميين، والعاملين في أجهزة الإعلام، بأسلوبٍ خفيّ، وغير مباشر! لماذا أمريكا؟! ففي بحثه 'سيد قطب وثلاث رسائل لم تنشر من قبل' يقول العلاَّمة الدكتور/ الطاهر أحمد مكي –الناقد الأدبي البارز: بعد قليلٍ من صدور كتاب 'العدالة الاجتماعية' سافر سيد قطب إلي الولاياتالمتحدة، في بعثةٍ علميةٍ، من خلال وزارة المعارف المصرية، للتخصص في التربية، وأصول المناهج، وكانت سِنُّه إذ ذاك اثنتين وأربعين عاماً! وأول ما يلفت النظر في هذه البعثة أنها جاءت فجأةً وشخصيةً، فلم يُعْلَن عنها، ليتقدم لها مَنْ يري نفسه كُفئاً، وأن سيد قطب قد تجاوز السِّنَّ التي تشترط إدارة البعثات توفُّرها بكثيرٍ، وأنه نُقِلَ عند تخصيصها له مراقباً مساعداً بمكتب الوزير! فمن الذي أوحي بالبعثة؟ وفكَّر فيها؟ ودفع سيد قطب إليها؟ وماذا كانت الغاية الحقَّة من ورائها بعيداً عن الظاهر غير المُقنِع'؟! والغريب، أنه لم يقف أحدٌ عند هذه النقطة، كما أنه لم يتناولها أحدٌ من الباحثين، ممَّن عرضوا لحياة سيد قطب، ولم يُشِر هو إليها، فيما كَتَب وخطَّ! ويتذكَّر الدكتور الطاهر مكي أنه في عام 1954م كان يدرُسُ التاريخ العام في معهد الدراسات العربية بالقاهرة، وكان المؤرخ/ محمد شفيق غِربال يُدَرِّس في المعهد، وكان سيد قطب قد شنَّ حملةً صحفيةً في مجلة روز اليوسف علي قادة وزارة المعارف، وأنهم كانوا يدورون عُمياً في فلك الغرب، وأنهم زيَّفوا التاريخ، مُجاملةً للعائلة المالكة، وهي إشارة صريحة إلي شفيق غربال! ولعل سيد قطب كان يخطب وُدَّ ثُوّار يوليو، من خلال تطاوله علي رجال الملك وحاشيته! لماذا لم يُكمِل قطب البعثة؟ أمام هجوم سيد قطب الضاري، لم يتردَّد غِربال في أن يُدافع عن نفسه في المحاضرة التي ألقاها بالمعهد، فقال: 'إن سيد قطب كفاءةٌ عالية، ويُرجَي منه خيرٌ كثير، ولكني آسفٌ لأنه غيرُ وفيٍّ، وناكرٌ للجميل، فقد توسَّمتُ فيه أنا وإسماعيل القبّاني-المستشار الفني لوزارة المعارف- الخيرَ، والنفعَ، فوفَّرنا له بعثةً غيرَ عاديةٍ إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية، ليتصل بالحضارة الغربية، وتقع عينه علي ما في العالَم الجديد، فيُعمِّق فكره، وتتسع نظرته، فلم يُكمِل البعثة، وها هو الآن يشتمنا'! أسئلة بلا إجابات! ويطرح الدكتور الطاهر مكي عدة أسئلة حول هذه الرحلة الغريبة، منها: لماذا الولاياتالمتحدة بالذات؟! في حين أن انجلترا أقرب لنا، وأرخص في التكلفة؟! كما أن شفيق غربال والقباني، درسا في لندن، والمعهود أن المرء يميل إلي البلد الذي درس فيه؟! ويربط الدكتور مكي الحلقات المفقودة ببعضها في رحلة سيد قطب المثيرة للجدل، ليصل إلي أنَّ ذهاب سيد قطب إلي الولاياتالمتحدة في عام 1948م، ولمدة عامَين، كان: 'وليدَ تخطيطٍ أمريكيٍّ خفيٍّ، بعيدٍ عن سيد قطب نفسه بداهةً، فمن الغريب، والعصبية بين أنصار كلية دار العلوم، وأنصار كلية الآداب، علي أشدها في تلك الأيام في وزارة المعارف، أن يعهد إسماعيل القبّاني بالذات لموظفٍ من دار العلوم، هو سيد قطب، ببعثةٍ، وهو في مثل هذه السن الكبيرة! ولا يرِد علي ذهن المرء أن القبّاني نفسه سجَّل تقديره لقطب رسمياً، حين قدَّم الأخيرُ استقالته من عمله مراقباً بالوزارة، في 18 أكتوبر 1952م، بعد الثورة مباشرةً! كما أن القبّاني أيضاً حاول أن يُثني سيد قطب عن الاستقالة بشتي السبل، فقال في المذكرة التي تقدَّم بها إلي مجلس الوزراء، في 30/12/1952: 'ولمّا كنتُ بالرغم من هذا، أعتقد أن بسيد قطب بعض النواحي الطيبة، التي يمكن الاستفادة منها، وان له من قوة تفكيره وكِفايته، ما يجعله قادراً علي الإنتاج، فقد حاولتُ أن أُثنِيَه عن عزمه، وأن أُقنِعه بالعودة إلي عمله، وكانت آخر محاولةٍ لذلك في الأسبوع الماضي، ولكنه أصرَّ علي طلبه، وكان طوال هذه المدة مُمتنِعاً عن العمل'! فلماذا تُصِر الوزارة- في محاولةٍ تِلوَ محاولة- علي إثناء سيد قطب عن استقالته؟! وما الذي يُضيفه موظفٌ عادي للوزارة، إنْ لم يكن في الأمر سرٌ، لا يعرفه إلاَّ سيد قطب نفسه، والمسئولون عن أمر البعثة؟! فهل كان هناك تخطيطٌ ما في الوزارة، للاستفادة من سيد قطب بعد عودته من الولاياتالمتحدة، لتنفيذ هذه السياسات الأمريكية الجديدة مثلاً؟! ولماذا سيد قطب بالذات؟! ولماذا تغيَّر فكره، فانقلب إلي النقيض، بعد أن كان يدعو إلي العُري في مقالاته الاجتماعية، وإلي الليبرالية في أدبه المكشوف، ويُناهِض الرجعية والتقليد؟! والعجيب أن إسماعيل القبّاني طلب في مذكرته نفسها أن ينضاف إلي مدة خِدمة سيد قطب في الوزارة عامان، حتي تكمل المدة القانونية لمعاشه! وفي تلك الفترة، كانت العلاقات قد تأزَّمت بين حكومة ثورة يوليو، وبين الإخوان، فقُبِلت الاستقالة، من دون إضافة أي يومٍ واحدٍ إلي مدة خدمته! سيد قطب يعترف بالعمالة! ويصل الدكتور/ مكي إلي نتيجةٍ مؤدّاها: 'أنّ بعثة سيد قطب إلي الولاياتالمتحدة لم تكن خالصةً لوجه العلم! فقد اعترف سيد قطب بعد ذلكَ في مصر، لرفيقه في النضال/ سيد سالم، حين التقيا في السجن: 'أنه وقع تحت إغراء هذه الأوساط الأمريكية، بكل الوسائل، ولكنه لم بسقط في شباك أيٍّ منها'! وفي إحدي الرسائل التي أرسلها سيد قطب إلي زميل دراسته في دار العلوم، محمد جبر، يعترف سيد قطب بأنه تمَّ توفير الإمكانات المادية الكبيرة له في البعثة، مقارنةً بالطالب العادي، فيقول: 'فالطالب العادي يستطيع أن يعيش في حدود 180 دولاراً عيشةً راضيةً، أمّا أنا، فأُضطر- شخصياً- إلي إنفاق ما يقرب من 250 إلي 280 دولارٍ، وذلك بسبب اضطراري إلي حياةٍ مُريحةٍ، كلَّ الراحة، وإلي قيمةٍ غذائيةٍ مرتفعةٍ كذلك، وإلي شئٍ من المظهر، في بعض الأوساط، كرجلٍ زائرٍ، لا طالبٍ'! فمن أين أتي سيد قطب بهذه الأموال، وهو الفقير، الذي لا يملك شيئاً! كما أنَّ الوزارة لا تستطيع تحمُّل كل هذه المصاريف الباهظة لمدة عامين في واشنطن! دور المخابرات البريطانية! وربطاً بالحلقات المجهولة من حياة سيد قطب، خاصةً هذه الرحلة، وما صاحبها من أسرارٍ لم تُكشَف حتي اليوم! ففي كتابه 'سيد قطب صفحات مجهولة' يذكر محمد سيد بركة: ' أن بعض الأحاديث كانت تدور بين سيد قطب وبين أحد الأساتذة الإنجليز، الذين التقي بهم في أمريكا، وكان يدعو سيدَ لزيارته في بيته، ثمَّ تبيَّن- فيما بعد- أنه أحد رجال المخابرات البريطانية، وكان هذه الرجل يحذره من خطورة الإخوان المسلمين، إذا قُدِّرَ لها أن تسيطر علي مقاليد الأمور في مصر، ويُبصِّره بما يترتب علي الشباب المثقف، من أمثاله أن يقوموا به، حتي يحولوا دون سيطرة هذه الجماعة علي الحكم'! مع الإخوان المسلمين! هذا، وقد انضم سيد قطب إلي الإخوان عام 1951م، وانتُخِبَ عضواً في مكتب الإرشاد، وعُيِّنَ رئيساً لقسم الدعوة، في المركز العام للجماعة عام 1952م، وتولَّي رياسة تحرير جريدة الإخوان المسلمين، حتي تعطَّلت بعد صدور اثنَي عشرَ عدداً منها. علاقة سيد قطب بثورة يوليو! ولمّا قامت ثورة يوليو 1952م في مصر، فرِح بها الإخوان، ولكنَّ سيداً كان أكثرَ فرحاً بها، حيث أسهم في الإعداد لها، فقد كان صديقاً لبعض الضُّبّاط الذين قاموا بتلك الثورة! ويشير محمد بركة إلي أن: 'سيد قطب كان المدني الوحيد، الذي يحضر جلسات مجلس قيادة الحركة، وكان جميع أعضاء المجلس يتردَّدون علي منزله في حلون'! في حين، يذهب آخرون إلي أن مجلس قيادة ثورة يوليو وعد سيد قطب بإعطائه حقيبة وزارة الأوقاف، لكنَّه أخلف وعده لقطب، فانقلب عليهم بلا هوادة! فهل عاد سيد قطب من واشنطن بأجندةٍ خاصة، لتنفيذها، لاسيَّما مع قيام الثورة؟! والسؤال الذي يطرح نفسه بقوةٍ هو: لماذا سيد قطب بالذات، الذي تٌغازله وزارة المعارف، ثمَّ يحضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة بعد ذلك؟! وما هو الدور الذي كان موكولاً له القيام به؟! وما علاقته بالمخابرات البريطانية، والأمريكية؟! كل هذه أسئلة، وعلامات تعجُّب، ستكشف عنها الأيام عندما تظهر الوثائق السرية، حول هذا الموضوع في واشنطن ولندن!