لو كان قد قُدّر لك أن تسير خلف جثمان الشهيد اللواء نبيل فراج، لوجدت نفسك رغم كل نيران الغضب المتأجّجة، وأبخرة الحزن المتصاعدة، محلقًا فوق سحابة من الطمأنينة، ولأحسست أن المشهد بكل ظلاله وألوانه ومفرداته. يلقي بنفسه في وجدانك مجسّدًا في صورة واحدة، هي صورة مصر، فلسوف يعتريك يقين بأن مصر نفسها هي الحاضرة، وأنها هي التي تتقدم الصفوف، وهي التي تودع الجثمان، ومصر نفسها هي التي تتنفس في الصدور، وتلّوح بالاعلام، وترتدي ثياب الجنود، وتحيط بالموكب من أوله إلي آخره، وكأنه يعبُر في لحمها وبين ضلوعها، ولسوف يعتريك يقين، بأن مصر الحاضرة والتي تراها وتلمسها وتتنفسها، لن تموت، ولن تحني رأسها، وأنها بقدر رقتها وعذوبتها وكبريائها، هامة قدّت من الصخر، لا تنال منها العواصف ولا الأنواء، ولا تأخذ منها عاديات الزمن، فيّاضة كنيلها، قوّية كشمسها، وإذا كانت تلك لحظة في عمر زمنها، فإنها ليست سوي بحر تاريخها الواسع، وقد تكثّف في قطرات من النور، أو إذا شئت في قطرات من الدم والدموع. '1' هذا دم يسير علي قدمين واثقتين بكبرياء وطني نبيل، يصعد سلالم المجد وهو يتحدي منتصرًا، رصاص القاتل المهزوم، واقفًا في مقدمة جنوده ليمنح الشجاعة وسام الوطنية، ويمنح الوطن كرامة الفداء. هذا دم طاهر شهيد، لذلك فهو كالحقيقة سواء بسواء، لا ينحبس في وعاء، ولا يتبدد في فضاء، لا يخفيه طول الزمن، ولا يطويه تعاقب الفصول والأجيال. هذا دم يتكلم بنفسه، وعن نفسه، ولكنه يتكلم عنّا جميعًا: هذا دم يقول: إن علي هؤلاء الذين يتبجّحون بالحديث عن مصالحة مزعومة مع فلول القتلة وأشباح الإرهابيين أن يبتلعوا ألسنتهم ويصمتوا، لأن كلماتهم المغموسة في الجبن باسم العقلانية، وفي الخديعة باسم الديمقراطية، قابلة لأن تتحول إلي مزيد من رصاص الغدر الذي سيسفك مزيدًا من دماء المصريين، فقد أصبحت المعادلة الزمنية بين حديث المصالحة وحديث الدم، أكثر وضوحًا من أي وقت مضي، معادلة طرديّة بجدارة، فكلما تواتر وتمدد حديث المصالحة انفجر حديث الدم واتسعت دوائره. وهذا دم يقول: إن علي هؤلاء الذين يتبجحون بالحديث عن مقاربة مستحيلة بين الوطن وفلول القتلة وأشباح الإرهابيين أن يبتلعوا أصواتهم ويصمتوا، لأن كلماتهم المغموسة في الجبن والخداع هي التي ستمنح جسد الإرهاب الذي يحتضر، فرصة فريدة، لكي يدبّ في خلاياه المتداعية بعض من نبض الحياة. وهذا دم يقول: إن الذين لم يعجبهم في صفوف هذه الحكومة الناعمة الملمس، شعار الحرب علي الإرهاب فوق شاشات محطات التليفزيون، وسعوا إلي أن يستبدلوه بشعار غائم عن ديمقراطية غائمة، أن يتوقفوا عن النكوص، لأن أفعالهم وكلماتهم، قابلة لأن تؤثر في صفوف الجنود، وأن تهزّ فوهات البنادق، وأن تهدد الضباط الطلقات. وهذا دم يقول: إما أن نقف كالأشجار وإما أن ننحني كأعواد القش، إما أن ترفع رؤوسنا كأن أعناقنا سواري الاعلام، وإما أن ندفن رؤوسنا في أوحال الجبن والخذلان، لأنه ليس ثمة حلول وسطي، بين الصمود والانكسار، ولا بين الدم والرصاص، ولا بين الحقيقة والخديعة، ولا بين الشجاعة والجبن، ولا بين الوطنية الناصعة، والتبعية الذليلة. '2' المجد للدم الشهيد الذي يزرع في كل بيت زهرة طمأنينة، ويمنح كل يد رغيف خبز آمنًا وينبت في كل شارع وحارة شجرة سكينة. المجد لهؤلاء الذين يسندون بأكتافهم سماوات مصر، التي يريد لها اعداؤها وخصومها، بخسّة مقيتة، ان تتكسّر فوق رؤوس أهلها وتتناثر كأنها قطع من زجاج. المجد للجنود.. المجد للرجال، للمقاتلين، للمدافعين، للمقاومين الواقفين مشدودين كخيوط الشمس وهي تطرد نتف الظلام. المجد للرجال، والعار للمتواطئين والمتخاذلين المتردّدين المتقلّبين، المتلّونين، المخادعين، الذين يبيعون أرواحهم قبل أوطانهم لظلمات الخوف أو لخزائن الشيطان. المجد للرجال، والعار للذين يرون مجدهم جزءًا من مجد سادتهم، في واشنطن وقطر واسطنبول وبرلين ولندن وباريس، الذين يريدون أن يصعدوا فوق دمنا وانقاضنا وشهدائنا إلي سارية شمس الاطلنطي التي لا تريد أن تغيب، الذين يريدون أن يمسحوا عن أعلامنا ألوانها الوطنية، لتصبح بيضاء من غير سوء، نعلّقها لترفّرف كأجنحة الدجاج الأليف، علي أسوار المدن، ومنارات الموانئ، وأسطح البيوت، ونلصقها فوق وسائد النوم، وكتب المطالعة المدرسية، بينما يلقون علي مسامعنا دروسًا عبقرية في فضائل الانحناء المذلّ، والسجود الخانع، ويقرأون علي مسامعنا قرآنًا جديدًا، أعجميّ القلب واللسان. المجد للرجال، والعار لهم، وهم يتربصّون بالوطن كأنه ذبيحة، يريدون أن يتصدّقوا ببقايا لحمها وعظمها علي حلفائهم من قطّاع الطرق. المجد للرجال، والعار لهم، وهم يبيعون ترابًا أنبتهم، وسماء أظلْتهم، ووطنًا قوّتهم، وصنع منهم بشرًا لا يمشون في الأرض هونًا، وإنما يمشون في أرجائها فتنةً وخرابًا وموتًا. المجد للرجال، والمجد للدم الشهيد، فكلما سفكوا دما أصبح الدم سيفًا يلاحقهم حتي آخر الدنيا، وكلما أزهقوا روحًا تحولت إلي حبل مجدول، يلتف حول أعناقهم، حتي يوم يبعثون. أولئك الذين يحبّون أن يأكلوا لحم أخوتهم ميتة، فكرهتموهم. '3' ليس لشرطة في التاريخ الإنساني كله، مكانة رفيعة في تاريخ وطنها كما للشرطة المصرية، ولم تعش شرطة في عموم بلاد الدنيا موصولة بتطلعات شعبها، مندمجة بجسدها في قلب معاركه الكبري بذلًا وفداء وتضحية كما عاشت الشرطة المصرية، وليس في ذلك أثر لمبالغة أو تضخيم، والذين لا يرون إلاّ سحابة قاتمة عابرة في تاريخ الشرطة المصرية، تلخصَ تاريخها، يريدون أن يغطوا علي القاعدة الواسعة باستثناء محدود، ويريدون أن يمنحوا خطاب الكراهية المبتذل، والمعد سلفًا خارج الحدود، فرصة للتمكين له، كي يكون التمكين خالصًا لأنفسهم. فكما هو أقدم جيش وكما هي أقدم أمة، وأول وأقدم وأطول امبراطورية في التاريخ الإنساني كله، فإن جهاز الشرطة المصرية بدوره، هو أول وأقدم جهاز شرطة في التاريخ، فقد ولد مع الجيش المصري من ضلع الأمة التي استبقت الدولة في وعاء زمني وإنساني وحضاري واحد، عندما اكتشف المصريون قبل غيرهم بآلاف السنين، تلك العلاقة الوثيقة بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي واعتبروهما معا جناحي معادلة دفاعية وحياتية واحدة. لقد كانت عوامل التوحد في مصر مبذولة في البيئة والنهر وأساليب الحياة والديانات والحرف والطقوس، وفي مقدمتها التحديات المشتركة، وفي قلبها القوي الخارجية المتربصة، فقد ظلت بحكم بيئتها الفيضية الغنية، وموقعها الاستراتيجي الحاكم الذي يشكل قلب العالم وعاصمته الاستراتيجية، مطمع كل الجراد الصحراوي الباحث عن الخضرة والماء، كما كانت قبلة كل الذين أرادوا احتكار شرايين النقل البحري حول العالم وكل الذين أرادوا أن يفرضوا سطوتهم علي المنطقة والعالم، ولهذا بلورت مصر شخصية وطنية خارج نظم تقسيم العمل وتراكم الثروة، ولهذا كان الدفاع الوطني الجماعي، سابقًا علي كل شيء سواه. فتاريخ منظومة القوة في مصر، أمنًا داخليًا وخارجيًا وثيق الصلة بتاريخ مصر، بل يكاد يكون عمر الجيش المصري الذي كان معنيًا بهذين البعدين الأمنيين هو ذاته عمر مصر، فقد ولد من ضلعها، عندما ولدت من ضلع الوادي، وتبلور مع شخصيتها، وواصل رسالته في قلب رسالتها، ولقد ولدت الشرطة في قلب هذه الرسالة، وواصلت وظيفتها التاريخية معها، إننا نتحدث عن دولة مركزية قوية وعن جهاز للشرطة يتوافق مع الوظيفة الأمنية التي أُسندت إليه، وإذا لم يكن ثمة تقدير للأعداد التي ضمها جهاز الشرطة في مصر القديمة، فإنه يمكن استقراؤها من تقدير المؤرخين لقوة مصر العسكرية، ف'ديودور' قدر جيش رمسيس وحده بنحو 600.000 مقاتل. '4' ليست المحاولات التي بذلت مؤخرًا لتحطيم جهاز الشرطة المصرية، جديدة أو مستحدثة أو مبتكرة، فلقد كان هذا هو المبدأ الاستراتيجي الأول لكل مستعمر، عندما انزلقت مصر من امبراطورية إلي مستعمرة تحت حكم أجنبي سواء أكان الاغريق أم الرمان أم البيزنطيين، كان الهاجس الأول لكل منهم رغم الفوارق الكبيرة بينهم هو تجريد المصريين من أي وظيفة أو دور أو عمل يتعلق بالأمن، وأيا كان شكل التنظيم الأمني أو طبيعته أو أدواته أو سياسته. رغم أنهم جميعًا استمروا علي النظام الأمني نفسه الذي وضعته مصر الفرعونية، وطبقته بعناية ودقة، شأنه شأن التنظيم الإداري، وقد استمر كلاهما علي حاله بعد الفتح العربي، ومن المؤكد أنه لم يتح للمصريين خلال فترة حكم الولاة مع الفتح العربي أن يتبوأوا مناصب قيادية في تنظيم الشرطة، ولكن من المؤكد أيضًا أن مناخًا جديدًا سياسيًا واجتماعيًا قد سمح لهم بأن يتبوأوا مناصب أقل درجة، فقد اندمج بعضهم في هياكلها بمناصب معاونة، وهو ما فقدوه تمامًا في العصر الفاطمي وما تلاه غالبًا، فلم تسند إلي مصر أية وظيفة في هيكل الأمن، حتي بدأ محمد علي في بناء الدولة الحديثة، وقد كان أثمن ما في عقله هو إدراكه لقيمة مصر، وأعمق ما في رؤيته مفهوم الدولة المركزية ودوائر أمنها القومي، ولهذا كان البعد الأمني غالبًا في كل خططه وأعماله، بل كان الأمن أولًا، من أجل توفير شروط بناء الدولة. وخلال هذه السنوات ولد الجيش المصري مجددًا مع الشرطة المصرية في وعاء وطني واحد، فقد كان هناك تقسيم شكلي بين جهازين متداخلين في القيادات والتنظيم والوظيفة فوظيفة الجيش هي الأمن والأمان في الداخل والخارج. '5' كانت السمة الأبرز، بل والقانون الأعلي لكل مرحلة في الصعود الوطني تاريخيًا، هو بناء تحالف مكين بين العسكريين والمثقفين، ولم يكن ذلك عنوانًا لمرحلة أو موقعة، أو موجة وطنية صاعدة، أو مقاومة وطنية بازغة، ولكنه كان جوهر كل مرحلة وموقعة وموجة، ولم تكن الشرطة المصرية عبر كل المراحل والمعارك والمواقع بعيدة عن القلب الذي يضخ الدم والحرارة. لقد بدأت في القاهرة عام 1876 الاجتماعات السرية للضباط الوطنيين في الوقت الذي تصاعدت فيه الحركة الدستورية ثم امتدت الوشائج قوية بين العسكريين جيشًا وشرطة وبين طلائع المثقفين، حيث انصهرت في شعار موحد 'مصر للمصريين'، وقد شكلت طاقة الفعل الحقيقية التي أوصلت أحمد عرابي إلي تحدي الخديو توفيق. قائلًا قولته الشهيرة 'نحن لسنا عبيدًا ولن نوّرث بعد اليوم'، ولم يكن الحزب الوطني نفسه الا ائتلافًا بين العسكريين والوطنيين من المثقفين والاعيان والموظفين، عندما قدم في 18 ديسمبر أول برنامج معلن في شكل وثيقة تألفت من ست نقاط في مقدمتها 'عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، مؤكدة أنه قد فوض الوطنيون أمرهم إلي أمراء الجهادية مطالبين منهم أن يصمدوا علي طلبهم، لعلمهم أن رجال العسكرية هم القوة الوحيدة في البلاد وهم يدافعون عن حريتهم الآخذة في النمو'. لتصل الموجة الوطنية إلي نقطة لم يعد الخديو فيها غير واجهة بعد أن أصبحت السلطة الحقيقية في يد قوات الجيش والشرطة مؤيدة بحركة شعبية جماهيرية عارمة تعكس صحوة مصرية لانتزاع حقوق الحكم والسيادة. وعندما قبل الخديو الشروط التي حاولت بريطانيا وفرنسا أن تفرضها لقمع الحركة الوطنية، وإزاحة عرابي عن منصب وزير الحربية، تقدمت الشرطة بمبادرة عكست حسًا وطنيًا رفيعًا، فقد تقدمت إلي الخطوط الأولي، حيث أرسل عدد من قادتها يمثلهم القائمقام سعد أبوجبل والقائمقام علي داود برقية تهديد إلي الخديو تنص علي أنه إذا لم يعد عرابي إلي منصبه وزيرًا للحربية، فإنهم يصبحون غير مسئولين عما يحدث. كان تنظيم التعاون حد الاندماج الوطني الكامل بين الجيش والشرطة يمثل قمة موجة الحركة الوطنية، ولم يكن الأمر من قبل ومن بعد وليد تصرف فطري أو وجداني، فقد اعترف علي فهمي أحد ابطال الثورة الذين نفوا مع عرابي إلي جزيرة سرنديب خلال المحاكمة العسكرية التي حاكمته ورفاقه بوجود اتفاق سابق بين رجال الجيش والشرطة علي خطوات الكفاح في سبيل الأمة، وقد سجل ذلك بكلماته في المحضر الرسمي للمحاكمة: '.. في ذات يوم أجمعنا نحن وجميع الضباط ومأموري الضبطية وضباط المتحفظين 'الشرطة' وحلفنا جميعًا يمينًا أن الذي يكون غير مستقيم يصير مجازاته، ولا يكون منا'. ولم تكن الشرطة المصرية بعيدة أيضًا عن المشاركة الفعلية في الحرب التي دارت بين الجيش المصري والقوات البريطانية، فعندما أصدر عرابي منشورًا في 12 أغسطس 1882 يتضمن تكليف المديرين بجمع خمسة وعشرين ألفًا من الخفراء النظاميين للانضمام إلي الجيش العامل، وتحصيل عشرة قروش عن كل فدان من كل مالك لتمويل الثورة العرابية، انضم إلي جيشه بمديرية البحيرة مئات من ضباط الشرطة يقودون آلافًا من الخفراء النظاميين والمتطوعين وقد اجتمعوا تحت لواء القائد طلبة عصمت واشتركوا فعليًا في قتال القوات البريطانية. '6' لقد نزلت القوات البريطانية إلي الإسكندرية يومي 14 و15 يوليو 1882 وبدأت الخطوة الأولي في احتلال مصر ثم تقدمت إلي القاهرة واحتلتها بعد معارك ضارية مع الجيش المصري وعندما استقر الأمر لقوات الاحتلال، تألفت لجنة للتحقيق مع العرابيين وكانت قوات الشرطة أول هدف لسياسة الإرهاب والتنكيل بعد إصدار الحكم علي عرابي وبعدها بأيام علي رفاقه السبعة بالاعدام ثم تعديلها إلي النفي المؤبد ومصادرة الأملاك. وتضمنت الأحكام التي صدرت بحق العشرات من ضباط الشرطة والصف والجنود أحكامًا جائرة تراوحت بين الاعدام والسجن والمؤبد وكان في مقدمة حكم الاعدام الحكم علي الضابطين 'إبراهيم عطية' حكمدار قرة قول الضبطية بالإسكندرية و'علي موسي' ملازم مراسلات الضبطية بالاعدام حيث تم تنفيذ الحكم أمام مقر الشرطة 'فرفعت لهما مشنقتان' علي مشهد جمع كبير من الناس، كانت غالبيتهم من الأوربيين، ونفذ حكم الاعدام، تنكيلًا وتشفيًا وإثارة للرعب وخلق حالة ترويع في نفس الوطنيين ولكن موجة الحركة الوطنية الصاعدة لم تتوقف عن الفيضان خلال العقود التالية، كان قانونها الأعلي الذي أوصل موجها في كل مرة إلي قمة جبل الانتصار. هو وحده الشعب والجيش والشرطة. وهو قانون الأمس واليوم والغد! '7' المجد للشهداء..