شهد الشهر المنصرم رحيل علمين عظيمين في الشعر وفي السينما: الشاعر سليمان العيسي 10/8 والناقد السينمائي والسيناريست رفيق الصبان 18/8. خص سليمان العيسي الأطفال بجزء مهم من شعره ولقد تفتحت مداركي أنا وأترابي وأجيال لحقت بنا علي أشعاره، حيث كنا نحفظ قصائده عن ظهر قلب في بدايات مراحل تعليمنا وأزعم أنه ليس هنالك طفل في سوريا المعاصرة لم ينشد: 'ماما ماما ياأنغاما تملأ قلبي بشذا الحب' و'عمي منصور نجار يضحك في يده المنشار قلت لعمي عندي لعبه اصنع لي بيتا للعبه' و'خاف الأرنب قفز الأرنب كنت قريبا منه ألعب لا تهرب مني يا أرنب أنت صديقي هيا نلعب'. وأذكر أنه وفي سنوات طفولتي الأولي جاء لزيارة طبيب قريب لي وكانت تجمعهما صداقة متينة فاقترب من طفلة الطبيب مسلمًا ومداعبًا فما كان منها إلا أن رمقته بعينين غاضبتين وتمتمت بلفظ ناب فقال سليمان لأبيها معاتبًا: أهذا ما علمتها إياه أما كان الأجدي أن تحفظها بيتا من الشعر؟! وبنهاية الزيارة غادر الشاعر المنزل تاركًا ديوان شعر له ممهورا بإهدائه وتوقيعه ولا أكتمكم سرًا فقد كانت المرة الأولي في حياتي التي أسمع بها عن مفردات اسمها الشعر والشاعر والديوان والإهداء وكلها مفردات وطقوس صارت فيما بعد تلازمني وتأكل وتشرب وتعيش معي ليل نهار فقط. ودارت الأيام والأعوام وعدت والتقيت هذا الشاعر الرائع هنا في مصر خلال مناسبات شعرية عديدة، حيث تربطه علاقات عشق وطيد مع المكان والناس وكبار الشعراء والمثقفين. كان سليمان وقتها قد هزل وضعف سمعه وأقعده الكبر والمرض إلا قليلا وكان يتحرك جالسا علي كرسيه المتنقل بمساندة ومساعدة السيدة الرؤوم حرمه وكان في نهاية فعاليات كل يوم من أيام المؤتمرات والمناسبات الثقافية يأخذ بنشيد القصيدة الخالدة 'مصر تتحدث عن نفسها' لشاعر النيل حافظ إبراهيم ويجهر بصوته: 'وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي' ويتجمع الشعراء حول كرسيه المتحرك كبارا وصغارا منشدين معه بحماسة منقطعة النظير حتي نهاية القصيدة. وأما عن الراحل رفيق الصبان الذي ينحدر من أسرة سورية عريقة فقد كانت أخباره وأعماله تصل إليَّ وأنا في سوريا ثم في السعودية وحين انتقلت إلي مصر تعرفت به وبالسيدة حرمه والتقينا في العديد من المناسبات والبرامج التليفزيونية. كان رحمه الله جم التأدب محبا للفنون بأنواعها ولا أبالغ إذا قلت أن الفن كان يجري في عروقه مجري الدماء وكنت كلما حضرت عرضًا مسرحيًا أو مناسبة فنية وجدته بصحبة السيدة زوجته يجلسان بهدوء ووقار وينصتان ويتابعان برقي واهتمام وينصرفان مبتسمين هادئين وأشد ما يحزنني أنني لن أراه وأسلم عليه بعد اليوم في أي عرض فني، وأنني سأفتش عبثا بعيني عنه دون أن أجده كما تعودت ولكنها مشيئة الله وديدن الكون فكلنا ذاهبون وإنا لله وإنا إليه راجعون. لسليمان العيسي ورفيق الصبان الرحمة الواسعة ولذويهما الصبر والسلوان ولسوريا التي أنجبتهما النجاة والسلامة ولمصر التي أحباها بكل كيانيهما وأحببناها معهما بكل كياناتنا نحن معشر المبدعين العرب الرفعة والتقدم.