من الظواهر الواضحة التى علينا أن نصارح أنفسنا بها إذا كانت رغبتنا صادقة فى إصلاح أحوالنا الحضارية أننا أمة تسير وراء الأشخاص لا وراء الحجة والدليل، أو االفكرة والمبدأ. شأننا دائما تجنب تعميم الأحكام، فما قلناه نريد به الغالب، ولا نقصد به العموم. سمعنا وقرأنا كثيرا عبارة:اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال، ثم اكتشفنا أن كثيرا ممن يقولون ذلك هم أول من يعملون بنقيضه. إذا جئت بألف دليل على ما تقول فلن يصغى إليك إلا القليل، وإذا حدثتك نفسك بحرية النظر-وفى يدك الحجة-فستفتح عليها أبواب الاتهامات:من أنت حتى تتوهم فى نفسك مسامتة السابقين، وتطمح إلى مطاولة المتقدمين. ألم يحو التراث كل شىء؟ألم يجب السلف عن كل شىء؟فماذا بقى من شىء؟! فإذا قلت هذا قول فلان، أو هذا قول مذهب كذا، أو هذا ورد فى كتاب كذا، أو هذا مروى فى مصنف كذا فلن تجد على الفور إلا الخضوع والإذعان، لا للدليل والبرهان، ولكن لأنك عزوت ما قلت إلى فلان أو فلان. هذا الداء الذى استعصى على أهل الطبابة ينبغى أن يبحث له عن دواء. لا شك أن العلاج يتطلب خطوات متعددة، ومسارات مختلفة. إلا أن أول خطوة فى هذه السبيل هى إعادة بناء العقل المسلم. نعلم أن هذه مسيرة شاقة ومضنية، وطريق طويل، بل هو طويل بطول الدنيا نفسها، وأنه يحتاج إلى شجاعة وجرأة، وحزم وهمة، وجهود مؤسسات وهيئات، وأفراد وجماعات، إلا أننا بمشيئة الله سنبذل فيه ما فى إمكاننا، ولو استطعنا بعون الله وتوفيقه وهدايته أن نعبّد فيه مترا واحدا لكان هذا مرضيا لنا غاية الرضا، وكافيا تمام الكفاية. ناء العقل المسلم عبر عهود عهيدة بميراث ثقيل من التقليد، وميراث ثقيل من التخلف الفكرى المسمى حينا بالسلفية وحينا بالوهابية، وميراث ثقيل من عبادة الرواية وتقديس بعض مصنفاتها، وميراث ثقيل من الوقوف عند حرفية النصوص والغفلة عن روحها ومقاصدها، وميراث ثقيل من معاداة والعقل واختصامه. كل نازلة مما تقدم كفيلة وحدها بإصابة الأمم بالعجز والجمود، فما بالك وقد تجمعت وتضامت. سنستعرض فى هذا المقال ناحية واحدة هى الرواية. إذا ساغ لنا أن نوازن بين الموبقات السابقة من حيث فداحة الأثر-وكل منها شر مستطير-فلن نتردد فى القول:إن الإفراط فى الرواية، والتعصب لها كانا أكبر كارثة حلت بالإسلام على مدى تاريخه. المشكلة الأساسية فى هذه القضية هى الطرح الذى يقدمه أنصار الرواية، فلو أنهم قالوا:إن الكثير الغالب من أحاديث البخارى ومسلم صحيح، غير أن هذا لا ينفى أن يكون فيهما الضعيف والموضوع-وأعلم تماما أن هذا الكلام سيكبر على الكثيرين، ولكنها الحقيقة التى آن لهم أن يسمعوها-وإن أحاديثهما يجب أن تخضع سندا ومتنا لأشد معايير النقد صرامة، شأنهما فى ذلك شأن غيرهما من المصنفات، لهان الخطب، بل لما كانت هناك مشكلة أصلا.ومن باب أولى سائر الصحاح الأربعة، وغيرها. بيد أنهم يصرون على أن جميع أحاديثهما صحيحة صحة مطلقة، لا يجوز أن يوجه إليها أى نقد، ويلزمون غيرهم بالتسليم بها. هذا الطرح المتطرف هو أساس المشكلة، أو هو المشكلة كلها. لعل الكلمة التى قالها ابن الصلاح-وهو من علماء القرن السابع الهجرى-فى كتابه(علوم الحديث)المشهور بمقدمة ابن الصلاح، وتابعه عليها الكثير من بعده من أن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول، وأن كل ما فيهما-سوى نزر يسير-مقطوع بصحته هى المسئولة بدرجة كبيرة عن الصورة التى استقرت فى أذهان الناس عن صحيحى البخارى ومسلم. وقد سبق أن ناقشنا هذه العبارة فى مقالات سابقة، وبينا أنها غير دقيقة، بل غير صحيحة. وسنعيد مناقشتها بعون الله وتوفيقه مرة أخرى. أولا هذا الكلام لا يعد إلا من قبيل الخَطابيات التى لا يصح الاستناد إليها فى إثبات القضايا العلمية. ثانيا فإن المراد بالأمة هم علماؤها، إذ لا عبرة بالعوام فى هذا المقام، وعلماء الأمة كما لا يخفى على أحد طوائف متعددة، وطائفة المتكلمين والأصوليين-وهم صفوة هذه الأمة فى الحقيقة-لم يكن هذا هو موقفهم من أحاديث البخارى ومسلم، وإنما وضعوا معايير عامة وصارمة لصحة المتون وقبولها، ولم يستثنوا منها أحاديث الصحيحين. قال صاحب(فواتح الرحموت)وهو من أجلّ كتب أصول الفقه:ولَنِعْمَ ما قال الشيخ ابن الهُمام:إن قولهم بتقديم مروياتهما على مرويات الأئمة الآخرين قول لا يعتد به، ولا يقتدى به، بل هو من تحكماتهم الصرفة، كيف لا وأن الأصحّيّة من تلقاء عدالة الرواة، وقوة ضبطهم، وإذا كان رواة غيرهم عادلين ضابطين فهما وغيرهما على السواء على أن هذا ليس رأى علماء أصول الفقه فقط، بل هو رأى فريق من المحدِّثين، وعلى رأسهم الإمام النووى الذى قال فى بدايات شرحه على مسلم ما نصه:أى فى إفادة أحاديثهما للظن لا لليقين. وثالثا فإنه على فرض أن جميع علماء الحديث قد تلقوا أحاديث الصحيحين بالقبول-وليس هذا بصحيح كما سيأتى فى النقطة التالية-فإن هذا لا يبرر سحب هذا الحكم على العموم، فأهل الحديث لا يمثلون بالطبع الأمة كلها، فضلا عن تأخر رتبتهم عن علماء الكلام والأصول. ورابع الملاحظات على مقالة ابن الصلاح هذه أن إجماع أهل الحديث على صحة جميع ما فى الصحيحين الذى يلحون على ترسيخه غير واقع. فهذا الدارقطنى-وهو من أعلام مدرسة الرواية، وصاحب كتاب(السنن)وهو من مصنفات الحديث المشهورة-قد طعن فى بعض أحاديث البخارى، وعددها مئة وعشرة أحاديث، وقد أورد ذلك ابن حجر فى مقدمته لفتح البارى(هدْى السارى) ومن ناحية ثانية فإن من رجال البخارى من ضعفهم وجرحهم بعض علماء الحديث، وقد ذكرهم ابن حجر فى كتابه السالف، وأحصيناهم فبلغوا زهاء387 راويا، ومن هؤلاء من اتهم بالبدعة، وقد ذكر السيوطى فى(تدريب الراوى) أسماء من أخرج له البخارى ومسلم ممن رمى بالبدعة، وقد أحصيناهم فبلغوا الثمانين تقريبا. وفى(تدريب الراوى)للسيوطى: وفى قبول رواية أهل البدع خلاف بين العلماء، قال فى ذلك العلامة الأصولى المحقق عبد العلى الأنصارى فى كتابه القيم(فواتح الرحموت شرح مسلّم الثبوت):وتخريج محمد بن إسماعيل البخارى ومسلم ومحمد بن إسحاق لا حجة فيه، فإن المسألة مختلف فيها، فلا يكون زعم أحد الفريقين حجة على الآخر، كيف ومثل الإمام إمام أئمة الحديث محمد بن سيرين كف الرواية عنهم ونختم الرد على مقولة ابن الصلاح هذه بأن ما ادعاه مخالف لجمهور العلماء، وللمحققين منهم كذلك، وقد صرح بذلك علم من أعلام مدرسة الحديث نفسها وهو الإمام النووى.قال فى أوائل شرحه على مسلم:وهذا الذى ذكره الشيخ فى هذه المواضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون، فإنهم قالوا:أحاديث الصحيحين التى ليست بمتواترة إنما تفيد الظن، فإنها آحاد، والآحاد تفيد الظن على ما تقرروردد النووى نفس الكلام فى كتابه(التقريب) فماذا بقى إذن بعد مخالفة الأكثرين، ومخالفة المحققين؟ وبما سبق من الردود يتبين أن ما زعمه ابن الصلاح مبالغة ساقطة عن رتبة الاعتبار. سنعزز هذا العرض النظرى بمثال تطبيقى، لتكون الصورة أوضح وأجلى. سنأخذ حديثا واحدا-وبين أيدينا عشرات الأحاديث، ولكن المقام لا يحتمل، وقد نعود لنقد بعضها مستقبلا إن شاء الله-وسنطبق عليه قواعد نقد المتن بصورة منهجية علمية، ثم نترك القراء الكرام بعد ذلك وما يختارون. وذلك فى المقال القادم بعونه تعالى ومشيئته. جماع القول فى أصول نقد المتون التى نلتزم بإعمالها وهذا هو المنهج الذى تربينا عليه، وأخذنا نفسنا به-أن نصوص الروايات تفهم فى إطار قواعد الدين الكلية، ونصوصه القطعية، ومبادئه الأساسية، والمقاصد العامة للشريعة، وما يليق بهذا الدين العظيم من السمو والكمال. فما وافق ذلك فهو صحيح معتبر، وما عارضه معارضة بينة لا سبيل معها إلى تأويل مقبول، أو توفيق معقول فهو مطروح مبذول. روى مسلم فى صحيحه برقم- 1977 -عن أم سلمة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(إذا رأيتم هلال ذى الحجة، وأراد أحدكم أن يضحى فليمسك عن شعره وأظفاره)وفى رواية أخرى لمسلم أيضا(إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحى فلا يأخذنّ شعرا، ولا يقلمنّ ظفرا) وأخرج هذا الحديث كذلك أبو داود والنسائى كما فى (نيل الأوطار) أما متن هذا الحديث فأمارات الوضع والبطلان عليه ظاهرة، ولسنا نكتفى بتضعيفه، ولكننا نقول وبأعلى صوت:إنه موضوع. الإسلام هو دين السمو فى أرفع مراتبه، وفى جميع صوره، دين الطهارة والنظافة حسية ومعنوية، الوضوء والغسل من شعائره، ورسوله يقول فى عبارة واضحة فى الحديث الصحيح(حق على كل مسلم أن يغتسل فى كل سبعة أيام يوما، يغسل فيه رأسه وجسده)الحديث متفق عليه:أخرجه البخارى برقمى 897، 898، ومسلم برقم 849. ويقول عليه أفضل الصلاة والسلام(خمس من الفطرة:الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب)والحديث صحيح، رواه الستة والموطأ / البخارى 5889، مسلم 257، أبو داود 4198، الترمذى 2756، النسائى 9 -10 -11، ابن ماجه 292، الموطأ 2667. فكيف يُظن فيه صلى الله عليه وسلم-وحاشاه-أن ينهى عن تقليم الأظافر مدة عشرة أيام كاملة، وفى هذا بالإضافة إلى المنظر القبيح الذى يؤذى الآخرين تهيئة المجال للميكروبات والفطريات الضارة، والتى لن يتوقف ضررها على من فعل ذلك فقط، وإنما سيتعداه إلى غيره. انظر مثلا إلى العاملين فى المطاعم أو المخابز أو متاجر بيع المواد الغذائية، أو العاملين فى المجال الطبى بوجه عام ما الذى سيترتب من الضرر وانتقال العدوى منهم إلى ملايين الناس. قال لى طبيب:كيف يتسنى لى أن أترك أظافرى طوال تلك المدة، ومهنتى تحتم علىّ أن أكون فى أعلى درجات النظافة؟! لم يخالف هذا الحديث السنة الصحيحة فقط، وإنما صادم القرآن أولا مصادمة واضحة. قال تعالى فى معرض آيات عن الحج وشعائره { ثم ليقضوا تفثهم }أى:يزيلوا أدرانهم وأوساخهم باستباحة ما كان محظورا عليه أثناء الإحرام. إن هذا النص يدل دلالة قاطعة على أن عناية القرآن والإسلام بالنظافة بلغت شأوا بعيدا، ففى خضم الحديث عن أعمال الحج خامس ركن فى الإسلام اهتم القرآن بالتركيز على جانب الطهارة، ولم يقف عند ذلك فحسب، وإنما قدمه فى الذكر على إيفاء النذور، بل على الطواف بالبيت { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطّوّفوا بالبيت العتيق } هذا شأن النظافة فى ديننا العظيم الإسلام-الذى ظلمه الولوع بالرواية بلا تبصر ظلما بينا-بلغ من أهميته أن كتابه الذى يتعبد بتلاوته أمر بها، وأرشد إلى فعل ما تقتضيه بمجرد التحلل. لو أن هؤلاء الرواة-الذين لم يستطيعوا التخلص من بعض العادات البدوية التى جاء الإسلام ليطهرهم منها، فبقيت مترسبة فى أعماقهم-نسبوا هذه الأساطير إلى أنفسهم لتركناهم لحالهم، وطويناهم على بِلالهم، ولكنهم إذ أقحموها على الإسلام وهو يتنزه عنها، ونسبوها إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يتبرأ منها فقد أوجبوا هم أنفسهم علينا التصدى لهم، والصرامة فى مواجهتهم. ما زال المتعصبون للرواية فى ضلالهم القديم، وما زالوا يعيشون فى بيت من الوهم أقاموه لأنفسهم، وهو أنهم حماة السنة ونصراؤها. والحقيقة الماثلة أنهم باندفاعهم وتهورهم فى الرواية، وضحالة حظهم من الدراية يشوهون صورة الإسلام، ويسيئون إلى الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه، ويناولون خصوم الإسلام بأيديهم أسلحة الطعن فيه، ومعاول التشكيك والتضليل{وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} حذرنا مرارا من خطورة هذا المنهج، وقلنا:إن هؤلاء انعكس عندهم الانتماء، وانقلب الولاء، فبدل أن يكونا لله ولكتابه ولرسوله صارا لمصنفات بعينها، وأشخاص بعينهم. لا يعنى هؤلاء ما يترتب على منحاهم هذا من طعن فى الإسلام، وغمز فى كتابه، وإساءة إلى رسوله، وإنما كل الذى يعنيهم ألا يقال:إن فى المصنفات التى يقدسونها ويقدسون أصحابها أحاديث ضعيفة أو موضوعة.. .. .. .. نعوذ بالله من الخبال والخذلان. أخشى إن لم يفيقوا مما هم سادرون فيه-وهذه نصيحة أخيرة-أن يفاجئوا يوم القيامة بأن خصمهم هناك هو الإسلام، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} والله ولى الهداية كاتب المقال مدرس بقسم النحو والصرف بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر