لانك لحت لي الان بين ضباب كثيف، وجهك الطيب النبيل وبسمتك الضافية، وحنانك الأول وعشرة عمر تقاسمنا معاً فيها العذابات والصبر حتي صار صباراً علي حافتي عمرنا، أذكرك ولا أنساك أبداً من حدود إلي حدود، تسعي ما وسعك الجهد وتنظر إليّ وتشير إليه، هذا وطني الذي طاردني فيه الأغبياء ونبا بي وبك فكنا في حبه سواء أنا مطارد وأنت مهاجر ولكنه الوطن الذي ينبض في صدري ويتحرك في أوصالي، ليتني اليه أعود، اسمعك من وراء حجاب وأنت تخفق بجناحي طائر عتيق مازال يتردد رجعه بين ارجاء الفضاء، أهو نفسه الكروان الذي أحبه طه حسين وتاه به العقاد، واستأثر به الليل، حينما يرخي سدوله ويربت ظهر الكون ويهدهد الخوف في القلوب الحزينة، مازلت تحن تحنانك القديم، لعلنا نعود معاً إلي مراتع طفولتنا الرخية وهي تنفض عن الزمن اوزاره وتحط عن الأقدام خطاياها، ماذا وجدت من وجدك يا أيها المسافر من بلد إلي بلد ولا تعرف منها حتي الاسماء، عيونك الحائرة متي تستقر علي شعاع في هذه السدف المغلقة، فليرحم الله فؤادك الفارغ المجروح، وليربط عليه، وليردك إلي وطنك الذي يشتاق اليك بالسكينة والمودة، وكم أهواك وأهواه، وأراك في نفس اللحظة ممسكاً علي جمرك، تشد الوثائق علي هواك ولا تطلق له عناناً، وأكاد أرد رليك بعض الحنين لما آثرتني علي نفسك ودفعتني إلي، الامام، وهيأت لي سبيل العودة إلي جرح الوطني، ودموعه، ما ذكرتني أبداً باليد الآثمة التي عصفت بك وغرها الغرور وأوصد الكبر دونها سبل الرجاء، ما ذكرتني أبداً بالذين مكروا بك وأخرجوك بليل، وهم الآن اذلة بين الطرقات لا أحد يعيرهم طرفاً وماهم الآن الا كالهوام، هذا قصاص الديان الذي لا يخلف وعده ولا يتأخر عدله الا لحكمة بالغة تتخفي في ثنايا الاحداث، عد الينا يا أيها الجبل الشاهق والجواد الاصيل، مد أجنحتك التي ضممتها يوماً علينا في الغربة المظلمة والأيام العبوسة المتجهمة، وإبسط لنا اخفة الأمل التي أراها في ضميرك مازالت في خدرها العذري لم يمسسها بلاء من الظلم والظلام، هي تلتمع كالدرة المكنونة حين يخرجها الحق فتشق الدياجر وتأتي باليقين، إن هذه بلدك التي شهدتها قرينة البلد الأمين فيها الوادي المقدس طوي يمتد بقبس النار الطاهرة الي التماع السراب الذي يبرق بين الصفا والمروة، نفس الفكرة الثاقبة وهي تسعي بالزمن الي يومنا هذا، أنها تدابير الخالق العظيم، وأنت تعيد الكلمات التي خفقت يوماً علي الشفاه المشرفة » ولولا أن اهلك أخرجوني منك ما خرجت«.. كنت تسرف في إعادتها: »انك يا مصر أحب البلاد إلي نفسي«. ولن اسميك إلا بهذه الكلمات الخالدات الباسقات كأنها مآذن القاهرة العزيزة، تنطلق منها ابتهالات العشاق في سحر رطب ونسمات عليلة تنبه القلب المضطرب أن الافاقة هنا خير من الغرق في التيه والضياع، أنني انتبه معك في هذا الهدوء المخيم والسكنية الهابطة من علٍ، وأعيد علي سمع الزمن ما تحبه وترضاه، وأحبه ولا أنساه، أن هنا مثوي الذين احبوها وعشقوا ترابها، ونبتوا كالاشجار الطيبة، أصلها ثابت وفروعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، عد إلينا يا سيد القلب وصديق العمر وحبيب الوطن.