عندما عارضنا منذ اللحظة الاولي توزير رجال الاعمال.. لم يكن هذا طعنا في اشخاصهم، ولا حكما عاما علي فئة من المجتمع فيها مثل كل فئة اخري الصالح والطالح.. ولكن ما خشيناه »وما وقع فعلا« هو تضارب المصالح، والاثار الخطيرة لزواج المال مع السلطة وما يفتحه من ابواب الفساد والافساد. وعندما نبهنا إلي الحضور القوي لرأس المال في الانتخابات البرلمانية ثم سيطرته علي ما يقارب من ربع مقاعد مجلس الشعب وهيمنته علي اللجان الرئيسية فيه، فإن ذلك لم يكن رغبة في استبعاد احد ولكنه كان تعبيرا عن مخاوف مشروعة من سقوط العملية التشريعية في قبضة فئة سوف تنحاز بالضرورة إلي مصالحها الخاصة، وسوف تناضل من اجل فرض سياسات اقتصادية ومالية واجتماعية تحمي هذه المصالح، والتجربة تثبت ان ما تخوفنا منه قد تحقق، وان التجاوزات التي وقعت اكثر من ان تحصي والاضرار التي لحقت بالمصالح الوطنية تمثل كارثة حقيقية لابد من التصدي لها بحسم ودون ابطاء. ولقد توقعت مع غيري ان يكون اول رد فعل للقرار الذي اتخذه رئيس الدولة بإلغاء كل التعاقدات التي تمت بشأن قرية »امون« هو ان نري استقالة كل الاطراف المتورطة فيها خاصة بعد ان تبين ان جهاز المحاسبات قد نبه اكثر من مرة للمخالفات التي تشوب الصفقة والاضرار المتعمد بالمال العام. ومع ذلك كان الاصرار علي المضي في الصفقة المشبوهة التي جاء قرار الرئيس بشأنها ليكون ادانة لكل من شارك فيها، وليكون ادانة لكل من تستر علي هذه الصفقة أو غيرها من الصفقات، وليكون اعلانا بضرورة مراجعة تجربة رجال الاعمال في الحكم، ووضع الضوابط التي تمنع استمرار الزواج المحرم بين السلطة والثروة.. ان اطرافا في السلطة »مثل الدكتور علي الدين هلال« اصبحت تدرك خطورة استمرار اوضاع تتراكم فيها رؤوس الاموال لدي الاغنياء نتيجة تخصيص اراض لهم بأسعار بسيطة للغاية ورمزية ترتفع اسعارها بعد ذلك لتحقق الثروات الطائلة للمحظوظين.. ويشير الدكتور هلال في »أهرام« السبت الماضي إلي ما طالبنا به مرارا من ضرورة تفعيل نص الدستور الذي يمنع الوزراء والقيادات التنفيذية والحزبية واعضاء البرلمان من الاستمرار في الاعمال الخاصة أو الاتجار مع الدولة، ويؤكد ان تفعيل ذلك يحتاج إلي صدور قانون.. والسؤال: لماذا لم يصدر القانون حتي الآن؟ ولماذا تركنا الامور »سداح مداح« بين الخاص والعام؟ واذا كانت مراكز القوي التي نشأت من زواج السلطة والثروة قد نجحت في إبقاء الامور بلا ضوابط قانونية بما يسمح لها باستغلال مواقعها، فإن الامور قد وصلت الان إلي مرحلة لم يعد ممكنا التعايش مع كم الفساد الذي نشأ عن هذه الاوضاع، ويكفي هنا ان ننظر لما تم الكشف عنه خلال ايام بعد ان شجع قرار إلغاء صفقة قرية آمون علي اثارة غيرها من صفقات شابتها المخالفات.. وما خفي بلا شك اكثر فسادا واشد تجاوزا لكل قواعد الدستور والقانون حتي وان اعتصم اصحابها بأن »الاجراءات سليمة« لانهم من مواقعهم في السلطة يضعون القواعد التي تسهل لهم ان يكونوا البائعين والشارين في نفس الوقت، وان يشتروا من الدولة بابخس الاسعار وان يستفيدوا من مواقعهم للحصول علي ما يمنعهم الدستور من الحصول عليه!! امام مجلس الشعب تم الكشف عن تقرير جهاز المحاسبات بشأن صفقة بيع ارض ميدان التحرير، والذي يقول ان الشركة القابضة للسياحة قد أضرت بالمصلحة العامة في هذه الصفقة سواء بالبيع أو حق الانتفاع لتحالف بنك سوستيه جنرال مع شركة اكور التي يعتبر وزير الاسكان هو المساهم الرئيسي فيها. والنتيجة ضياع عشرات الملايين من الجنيهات علي الدولة في صفقة احاطتها الشبهات من البداية وحتي الآن!! في مجلس الشعب ايضا تحدث احد النواب المحترمين عن مخالفات ترتكبها احدي الشركات التي تريد الاستيلاء علي جزيرة سياحية باسوان والضغوط التي يمارسها الوزير الذي يملك الشركة علي المسئولين هناك. وعندما جاءه الرد بأن الموضوع انتهي بعد تدخل رئيس الدولة في الاشارة إلي قرار الرئيس مبارك بشأن قرية آمون. كانت المفاجأة من عضو المجلس بأن الحديث هنا عن جزيرة ثانية.. ووزير آخر!! في آخر ايام الدورة البرلمانية احال رئيس المجلس الدكتور سرور إلي اللجنة الاقتصادية عقد بيع ارض مساحتها 02 الف متر مربع بمدينة نصر إلي الشركة الطبية العالمية التي يسهم فيها احد الوزراء للتأكد من عدم اهدار المال العام أو استغلال النفوذ في هذه الصفقة. وفي نفس اليوم كان يصدر الحكم ببطلان عقد بيع ارض »مدينتي« لهشام طلعت مصطفي اثناء عضويته البرلمانية!! تم الكشف عن ان حجم التعدي علي اراضي الدولة قد وصل إلي 5.2 مليون فدان وتم التحايل علي القانون رقم 34 لسنة 1891 الذي ينص علي تجريم وضع اليد علي ارض الدولة ويعاقب بالمصادرة والغرامة والحبس والازالة لكل من يخالف القانون.. وجاءت الحكومة الرشيدة في عام 6002 لتفتح الباب لنهب الارض باصدار القانون 841 لسنة 6002. الذي يعطي الفرصة لتقنين اوضاع خاطئة في حدود 001 فدان للاسرة . وبالطبع كانت الفدادين المائة تتضاعف وتتمدد لآلاف الافدنة عن طريق وضع اليد الذي يتم تقنينه بعد ذلك بدفع الغرامات. بدلا من اعادة تفعيل قانون تجريم وضع اليد، والتعامل بحسم مع الذين تحايلوا عل القانون واخذوا الارض بخمسين جنيها للفدان بدعوي تحويلها لارض زراعية ثم حولوها إلي منتجعات سكنية فاخرة.. يجري الحديث عن تقنين الاوضاع مقابل دفع الغرامات ويجري الحديث عن تحويل المنطقة حتي الكيلو 84 من طريق مصر اسكندرية الصحراوي إلي منطقة سكنية.. ولعل هذا ما يفسر هذا الاندفاع لشراء الاراضي في هذه المنطقة من جانب الشركات التي يملكها أو يساهم فيها بعض الوزراء والنافذين مستغلين المعلومات التي يملكونها بحكم مواقعهم .. ومستغلين قدرتهم علي استخراج القرارات التي تقنن اوضاع هذه الاراضي فتضاعف من أسعارها وتحقق لهم ثروات طائلة. ان ذلك ينبهنا إلي اهمية ما جاء في القرار الخاص بالغاء صفقة قرية آمون، بان يعاد طرحها في مزاد علني بنظام الانتفاع لمدة اقصاها 94 سنة وهو ما سبق تكراره ايضا في صفقة »اكور« التي مازالت قيد البحث رغم تحولها من صيغة ملكية الارض إلي حق الانتفاع الذي ينبغي ان يكون هو السائد في كل الصفقات الخاصة بالاراضي التي تخصص للمشروعات حتي نقضي علي مافيا الاراضي التي لم تكتف بما نهبته في السنوات الماضية فوضعت يدها علي حوالي 5.2 مليون فدان تريد الاستيلاء عليها.. والبقية تأتي حتي اخر فدان في بر مصر!!. ان قانون تجريم وضع اليد لعام 1891 ينبغي ان يتم تفعيله والعمل به. والقانون الذي لم يصدر لتنفيذ نص الدستور بمنع الوزراء ونواب البرلمان من الاتجار مع الدولة لابد ان يصدر علي الفور. علما بان عدم صدور هذا القانون حتي الان لا يضفي اي شرعية علي كل التصرفات التي تمت بالمخالفة للدستور ولا يطلق يد الوزراء والنواب في عقد الصفقات مع الدولة مهما كانت طرق التحايل التي تمت من اجل ذلك. وبعضها يستحق ان يحاكم »سياسيا وجنائيا« كل من ساهم فيها. لقد عارضنا لوائح برلمانية فتحت ابوابا للفساد اغلقها الدستور فقيل لنا ان من حق النواب ان يتعاملوا مع الدولة كباقي المواطنين، واستنكر البعض اصرارنا علي احترام الدستور متسائلين:. هل تريدون ان تمنعوا النائب من تركيب عداد للمياه أو الكهرباء أو الحصول علي شقة في الاسكان الشعبي؟ كانوا يقولون ذلك وهم يعلمون ان الطريق الذي فتحوه ليس الطريق لتركيب عداد للكهرباء بل لشراء مصانع والاستيلاء علي آلاف الافدنة وامتلاك قري واحتلال جزر ووضع اليد علي كل ما يستطيع تحالف السلطة والمال ان يضع يده عليه. وقد آن لكل ذلك ان يتوقف، وان تحاسب كل الصفقات الشبيهة والمشبوهة بنفس المقياس الذي حوسبت به صفقة قرية آمون وان تعود الحدود الفاصلة بين المال وبين السلطة، وان يوقف التحايل علي الدستور وتعود الحرمة للمال العام وتغلق كل الابواب امام الفساد الذي توحش!! رفعت كمال.. لم اعرف الخبر الحزين إلا من صحف الصباح.. كنت في الاسكندرية فسارعت ابحث عن مقعد في قطار يعيدني لاشارك في العزاء. طوال الطريق كنت استرجع سنوات طويلة مع رفعت كمال .. اخا، وصديقا، ورفيق درب، طويل سرناه معا بكل ما فيه من حلو ومر. رحل صديق العمر ولم تبق إلا الذكريات. بعضها من حقي، وبعضها من حق القاريء الذي بذل رفعت كمال عمره، من اجل ان يجعل كل ما يتصل بالصحة والطب في متناوله، وخاض المعارك من اجل حقه في العلاج المناسب، ومن اجل حمايته من الخرافة والشعوذة بالانتصار للعلم. وللعلم فقط!! في نفس الكنيسة التي شهدت فيها يوم زواجه شهدت يوم وداعه.. غاب الكثيرون ممن كنت انتظر حضورهم. ولكن حضرت كل القيم الرائعة التي عاش يكافح من أجلها، وحضر الحزن النبيل الذي كان يغمر الجميع وهم يتبادلون العزاء في وداع رفعت كمال.