عند نهاية الزيارة ولدي مصافحة الوداع مازحني قائلاً الآن أصبح بيننا عيش وملح غريبا عشت في الدنيا نزيلا مثل ابائي غريبا في اساليبي و افكاري واهوائي غريبا لم اجد سمعا افرغ فيه ارائي يحار الناس في ألِفي و لا يدرون ما بائي يموج القوم في هرج وفي صخب وضوضاء و اقبع ههنا وحدي بقلبي الوادع النائي غريبا لم اجد بيتا و لا ركنا لإ يوائي تركت مفاتن الدنيا و لم احفل بناديها و رحت اجر ترحالي بعيدا عن ملاهيها خليّ القلب لا أهفو لشيء من امانيها اطوف ههنا وحدي سعيدا في بواديها بقيثاري و مزماري والحان اغنيها وساعات مقدسة خلوت بخالقي فيها اسير كأنني شبح يموج لمقلة الرائي غريبا عشت في الدنيا نزيلا مثل ابائي هذه الأبيات هي غيض من فيض أشعار قداسة البابا شنودة الثالث الذي فقدناه قبل اسبوعين. من اقترب منه لابد وأن يصيبه الانبهار من ثقافته الموسوعية، وسعة إطلاعه. ومن راقب مواقفه في السنوات الماضية ولاحظ فصاحته و دقة تعبيره، وانتقاءه لألفاظ تصريحاته لابد وأن يفهم المسكوت عنه والغائب عن كلامه.واللبيب هو من يلتقط إشارات الرضا أو الغضب في هذا الغائب. سويعات في حضرته لي شخصياً مع قداسته ذكري لا تنسي، وصورتان ما تزالان تزينان ألبومي تسجلان لهذا اللقاء الوحيد البعيد الذي جمعني به في أوائل التسعينات. كان قد تكرم بتوجيه الدعوة لعدد من الصحفيين المصريين في مقر إقامته واعتكافه في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون. لم أكن قد بلورت في ذهني فكرة واضحة عن قداسة البابا شنودة. دفعني الفضول وربما الشغف الي تلبية الدعوة والنظر اليه والاستماع لأفكاره في جلسة هادئة غير رسمية بعيداً عن صخب المدينة وتيهها الذي تغلفنا به. هناك .. في هذا المكان النائي الذي لا ألبث أن أعود اليه زائرة كل حين من الوقت لفرط روحانيته وهدوئه وصفائه استقبلنا بابتسامة هادئة تطل من وجهه، ترحاب وقور، دفء في التحية حتي لتتصور انه يعرفك من قبل، صوت خفيض يجبر الموجودين في حضرته علي الصمت ..لا .. بل علي كتم انفاسهم كي يتمكنوا من سماعه، ومغالبة نوبات سعالهم حتي لا تحدث ضجيجاً يشوشر علي الباقين. شخصية كاريزمية بكل المقاييس، في لحظة يسبر أغوارك ويستطيع تقييم الشخصية التي أمامه. حنكة هي؟ ربما.. شفافية هي؟ ربما أيضاً. لكن المؤكد انك حين تجلس اليه يأسرك ولا يجرؤ عقلك علي الفكاك منه والانشغال عما يقوله. عند الجلوس الي مأدبة الغداء الفاخرة التي دعانا اليها بدأت مشاغباتي مع قداسته.اكتشفت انه كان يعيش فترة صيام مطولة يقتات فيها بالخبز الجاف والملح والزيتون المزروع في أراضي الدير، ولامانع من بضع قطرات من الزيت كنوع من "الترف" أو كما نقول "يبّر نفسه". علي المائدة تم اعداد الوجبة المتقشفة الخاصة بقداسته امام المقعد الذي سيجلس عليه، بينما باقي المائدة عامرة بخروف مشوي وجميع صنوف اللحوم والطيور والمحشيات والطواجن. قلت له: ضميري لا يسمح لي بتناول هذه الأصناف بينما قداستك تأكل الخبز الجاف والملح. ابتسم ابتسامته الوادعة وقال: هذه حياتي التي اخترتها، وهذا التقشف هو أقل العذابات وانواع الحرمان التي يلاقيها البشر. قلت له: لدينا نحن المسلمين عُرف ان الصائم في النوافل يقطع صيامه عند وجود ضيف لديه. فاجأني قائلا ليصحح معلوماتي: "إنه ليس عرفاً لكنه سُنّة عن الرسول محمد". وصحيح ربما يتسبب الصيام في حرج للضيف لو شعر بالجوع لكنني الآن لست منقطعاً عن الطعام، فقط أنا عازف عن كل مافيه مظهر من مظاهر الرفاهية أليس هناك حديث نبوي يقول: بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه". أذهلتني معرفته بالإسلام، توقفت أمام المنطق الذي أجابني به لكني لم اتوقف عن مشاغباتي، وقلت له: مع ذلك لن أسمح لنفسي ان آكل من هذا الطعام ولتأذن لي ان أجلس بجوارك وأشاطرك طعامك، نحن نأكل هذا الطعام كل يوم، لكننا لا نشاطرك طعامك كل يوم هذه مناسبة نادرة. كانت المقاعد المحيطة بقداسته قد انشغلت ببعض الحاضرين الذين يلتمسون البركة منه. بنظرة منه لها مغزاها تكرم أحد المجاورين له بالتخلي عن مقعده لي وسحب طبقه ليجلس مكاني. وسمح لي قداسته بالجلوس الي جواره ومشاركته الخبز والملح والزيت، لكنه مع ذلك لم يكف عن ملء طبقي بأنواع الطعام الأخري. عند نهاية الزيارة ولدي مصافحة الوداع مازحني قائلاًالآن أصبح بيننا عيش وملح. شعرت بالزهو وقلت: بساطتك وتواضعك يشجعاني علي التبجح والرغبة في ابداء تعليقي علي أمر شخصي. بإيماءة قبول نلت الموافقة، فقلت: اسمح لي ان أبدي إعجابي بأناقتك، وانبهاري بالتطريز الفاخر الذي توشي به عباءاتكم المختلفة، من أين لك به؟ ولأول مرة تنفرج أساريره بما يفوق الابتسامة فتنم عنه ضحكة خافتة ليجيبني: أخواتنا الراهبات يتكرمن علينا بهذا الشغل اليدوي. خرجنا من هذا اللقاء الثري وقد امتلأت نفوسنا عذوبة، وزهداً، وامتلاءً، بعد أن جمعتنا سويعات مع قداسة البابا الزاهد الفيلسوف، السائح في ملكوت الله ، العالم بالتاريخ وعلم النفس والسياسة. مصر سات .. متي؟ متي تصبح مصر عضواً في نادي الفضاء والتجسس الاصطناعي؟ متي نمتلك قمرا اصطناعياً ناجحاً فائق القدرة علي اقتحام الفضاء؟ السؤال قد يراود البعض منا ولكن بلا إلحاح.. فجميعنا - إلا قليلاً- منشغلون هذه الأيام بأمور السياسة اليومية وتداعيات ما بعد الثورة، ولعلك تتساءل في نفسك وما سبب هذا السؤال الآن؟ وأجيبك بكل غيظ إنه مجرد خبر أو تقرير صحفي نشرته صحيفة چيروزالم پوست الإسرائيلية بعنوان: مصر تكافح لامتلاك قمر صناعي تجسسي! التفاصيل الواردة في الخبر بغض النظر عن مدي صحتها تبين إلي أي حد تخضع مصر لمجهر المراقبة والمنافسة. وبما انه لم تعد هناك أسرار في عوالم التجسس، وبما أن المنافسة في هذا المجال أصبحت عالمكشوف، فلا مجال للتساؤل من أين أتي علماء اسرائيل بهذه المعلومات التي نشرتها الصحيفة عن المحاولات الفاشلة لإطلاق القمر الصناعي التجسسي المصري، أوعن تدريب العلماء المصريين في اوكرانيا، ولا عن التقييم - الذي يبدو دقيقاً - لقدراتنا المحدودة في إطلاق قمر صناعي دون الاستعانة بأطراف خارجية او بعدم قدرة القمر المصري علي المناورة في الفضاء والتقاط الصور وتحميلها، ولا عن فقد العشرات من الباحثين لوظائفهم بعد النكسة التي اصابت القمر ايجبت سات 1 في 2010 حين فقد الاتصال بالقمر وأصبح الموضوع محط سخرية في الشارع. ولعلك لن تتساءل عن السبب الذي دفع الصحيفة الإسرائيلية للاهتمام بنشر هذا الموضوع الآن، وتذييله بأن اسرائيل واحدة من عشر دول في العالم فقط تمتلك القدرة علي بناء أقمارها الاصطناعية بنفسها وإطلاقها من أراضيها، والمناورة بها في الفضاء لالتقاط الصور، ففي مجال المنافسة تسعي الدول للكشف الإعلامي عن أسرار الدول المتنافسة معها، وعن قدراتها إما من باب الردع، او الفضح أو التقليل من الشأن أو المبالغة فيه لأسباب سياسية وعسكرية مثلما حدث من أمريكا واسرائيل مع العراق وسوريا ويحدث الآن مع ايران. فمن آن لآخر تطالعنا الصحف العالمية بصور أقمار صناعية لمواقع حساسة في البلدان المستهدفة يُدعي انها تضم مواد كيماوية او نووية، او انها شهدت تدريبات عسكرية سرية. لكننا لم نرَ صورة واحدة بالقمر الصناعي لموقع اسرائيلي واحد يكشف أسرارها العسكرية أو النووية برغم اليقين بوجود مثل هذه المواقع. الانتكاسة التي تعرض لها المشروع المصري لاينبغي أن تحبطنا، بل انه من الأحري بنا أن نلتف حوله وندعمه وأن ندعم مشروعاتنا القومية الأخري التي لا ينبغي ان تكون عرضة لاهتزازات السياسة وذبذبات نظام الحكم. ولا أن يؤجل العمل فيها. ثمة أهداف استراتيجية ينبغي أن تثير لدينا قلقاً كبيراً، وأن تحظي بإجماع وطني يتجاوز ترف التناحر والتناقض.. هي أهداف لا نملك رفاهية الانتظار لحين استقرار الأوضاع السياسية كي نشرع في تنفيذها. خذ عندك هدفاً مثل الاكتفاء الذاتي من القمح، أو مشروع امتلاك الطاقة النووية السلمية، الذي يتعرض للجاجة في النقاش وتخبط في اتخاذ القرار بل أحاطت مؤخراً بمشروع محطة الضبعة أحداث مؤسفة ومخزية. إننا نتعامل مع هذه الأمور كما لو كنا نبدأ من الصفر، وكأننا نعالج كل أمورنا بمنطق التجربة والخطأ، حتي في تلك الأمور التي لا تحتمل ذلك العبث وتلك الخفة، والتي استقر فيها العالم كله علي معايير وأصول وثوابت وأثبتت تجاربه فيها نجاحاً ملحوظاً، بل اننا نملك كنوزاً من الأبحاث وجيوشاً من الباحثين النابهين الذين اجتهدوا وتوصلوا الي نتائج مذهلة، لكننا للأسف مازلنا نصر علي البدء من الصفر. كتاب ياسر رزق لأن تحاور الأستاذ هيكل أمام كاميرات التليفزيون مهمة ممتعة بلاشك فأنت تنساب معه في نهر أفكاره وتترك الباقي لطاقم الكاميرات، أما أن تحاوره في مقابلة صحفية فهي مهمة وإن كانت ممتعة لكنها شاقة لأن عليك أن تنقل بقلمك للقارئ الذي لم يكن موجودا معك صورة حية للمكان وأنت تعبر عن روحه حين تبث لقارئك انطباعاتك وتسجل بقلمك كل خلجة وابتسامة ولمحة شرود أو تأمل تصدر من الاستاذ. إنها موهبة لا يملكها الكثيرون إمتلكها ببراعة يحسد عليها الأستاذ ياسر رزق في خبطته الصحفية التي خرجت في صورة مجموعة الحوارات التي أجراها مع »الأستاذ« ونشرها في جريدة »الأخبار«. فأعاد لها كنزا ثمينا افتقدناه طويلا. لكن ما أضفي علي هذه التجربة الثرية بهاءً وقيمة فكرية أنه جمع هذه الحوارات بين دفتي كتاب هو الثاني لياسر رزق حمّله نفس عنوان الحوارات » هيكل يتكلم مصر أمام لحظة حقيقة « وضمنه مجموعة التعقيبات التي انهمرت من كبار الكتاب والمفكرين فكانت في جملتها قيمة مضافة للوجبة الدسمة التي قدمها ياسر رزق علي طبق أفكار ورؤي هيكل، فكانت هذه التعقيبات جزءا لا يتجزأ من الوجبة ولدت أفكارا ورؤيً جديدة أثرت القارئ وساعدته علي أن ينهل من معين الأستاذ. تحية واجبة لكل من ساهم في اصدار هذا الكتاب بدءا من أ. ياسر رزق ومرورا بالصديق رضا محمود الذي أبدع في اخراج الغلاف وتحية خاصة لقطاع الثقافة بأخبار اليوم.