الأزمة الحادة أو منحني الخطر الحالي هذا علي طريق العلاقة المصرية الامريكية، يجتذب اهتماما عالميا ملحوظا، غير انه مصدر دهشة لدي بعض الدوائر لدينا هنا، ومثار بعض تعليقات ولغط، ربما عن غير دراية بخلفيات كثيرة وتفاصيل امتدت لسنوات، انقضت في محاولات من الجانبين المصري والامريكي لاحتواء الخلافات حول موضوع التمويل المباشر لمنظمات من المجتمع المدني. لهذا نحرص علي هذا العرض المتكامل لهذه العملية مع تفاصيل وتواريخ ليعلم كل من يريد ان يعلم الوقائع المجردة لهذا الشوط الطويل من الشد والجذب والجدال والخلاف الذي شهدته مقابلات رسمية وخطابات متبادلة ولقاءات حاول خلالها الطرفان المصري والامريكي احتواء الخلاف، الي ان خرجت الامور عن حدود المحتمل والمقبول، عندما صعد الجانب الامريكي من عمليات التمويل بعد الثورة المصرية في 25 يناير بنحو أمعن فيه بخرق كل شروط الاتفاق وتجاوزكل حدود مقبولة لدي دولة ذات سيادة. لذا بتاريخ 14 يونيو 2011 بعث وزير الخارجية د. نبيل العربي الي وزيرة الخارجية الامريكية (هيلاري كلنتون) الخطاب التالي: سعادة الوزيرة: أكتب اليك بخصوص بيان البرنامج السنوي للوكالة الامريكية للتنمية الدولية. فوفق ما قد تتذكرين، لمصر واضح وثابت من موضوع اعادة برمجة مبلغ المائة وخمسين مليونا. واقع الامر أن كلا من وزيرة التخطيط والتعاون الدولي وانا، قد أوضحنا للسفيرة مارجريت سكوبي و لكل الرسميين الامريكيين الذين زارونا، أن مصر لا توافق علي النحو الآحادي الذي تزاوله وكالة التنمية الأمريكية حيال استخدام تلك الاموال. وذات الموقف هذا قد نقل بالتمام لأعضاء الادارة الامريكية والكونجرس خلال زيارة الوفد المصري برياسة وزيرة التخطيط والتعاون الدولي الي واشنطون في ابريل 2011.. وبالمثل قد أعيد تأكيده لروبرت هورماتس وكيل وزارة الخارجية خلال زيارته مؤخرا للقاهرة. ومما يريح سيدتي الوزيرة انك عبرت خلال زيارتك الاخيرة للقاهرة عن تفهمك للرفض المصري الثابت اعادة برمجة هذه الاموال، كما اكدت علي التزامك العمل مع الحكومة المصرية وفق أولوياتها. مع ذلك، ورغم كل وضوح ما عرضته الحكومة المصرية، فلا تزال الوكالة الامريكية للتنمية الدولية تمارس ذات السياسة، بتجاهل الموقف المصري الذي نقل رسميا الي الحكومةالامريكية. وفي الاجتماع الاخير لمجلس الوزراء المصري، أوكل الي بمهمة توضيح هذا الوضع معك. وهو لماذا لا تراعي الحكومة الامريكية متطلبات الحكومة المصرية، وتستمر في تصرفات من جانبها فيما يخص أموال المعونة، وبما يعد خرقا لاتفاق المعونة الاقتصادية والفنية الموقع بين حكومتينا عام 1978. واقع الامر أن خطاب السفيرة سكوبي - 12 أبريل 2011 - بهذا الخصوص يدل علي الكثير. ففي خطاب السفيرة جاء الآتي " لقد اخطرنا حكومة مصر بما في ذلك وزارة التعاون الدولي بتحركاتنا. " في اعتقادي أن هنا معقد المسألة. فنحن اعتبرنا دوما المعونة الامريكية الي مصر جهدا "مشتركا " ومشاركة أصيلة وصادقة. والاتفاقية المبرمة بين حكومتينا عام 1978 تدعو بالتحديد لاتفاق بين حكومة - لحكومة، بحيث يشارك الطرفان معا في أي تدبير يعمل به، يمرر بينهما. بذلك، لابد لأي خطوات تتخذ ان تتم بما هو أبعد من مجرد " الاخطار " بل لابد وتكون " متفقا عليها من الجانبين " ويكون هذا فعليا هو أرضية العمل. هذا هو المفترض المنطقي منذ البداية وكذلك هو أساس اتفاقنا. وانما يبدوأنه قد اسقط علي مسافة ما في الطريق. وهذا ما يمثل نقضا لاتفاق بين الحكومتين. كما يمثل خرقا لقوانيننا واللوائح التي علي كلينا احترامها. عزيزتي وزيرة الخارجية كلنتون، تحين أوقات بين الاصدقاء تحتاج الي أن تناقش فيها مسائل معينة بروح من الصداقة والصراحة. والمفهوم دوما ان معونة الولاياتالمتحدة لمصر هذه مشاركة كاملة وجهد مشترك بين حكومتينا. وغياب مثل هذا التعاون قد لا يضيف بل ينتقص. أريد أن اطلب منك بمنتهي اللياقة والود ان نعاود معا النظر في هذا المفهوم. فاذا كانت آلية الاداء لا تمكن من الحفاظ علي روح المشاركة الخالصة والعمل المشترك مع حكومة مصر - وهذا ما يبدو لنا حاليا - علي ذلك قد يكون الافضل التوقف لفترة لحين وضوح هذا المفهوم الأساسي. أثناء ذلك، أطلب أن تتكرمي وتصدري تعليمات الي وكالة التنمية الامريكية بان تحترم مطلب الحكومة المصرية بوقف أي وكل النشاطات المتعلقة باعادة برمجة المائة وخمسين مليون دولار. وآمل أننا عندئذ سنبدأ حوارا بمعاودة الي مفهوم المعونة من الولاياتالمتحدة الي مصر. أجدني كذلك مضطرا لأن أثير موضوعا آخر أصبح مصدر قلق عميق لحكومة مصر، فمنذ أيام قليلة، نمي الي علمنا - بمحض المصادفة - أن مبلغ 160 مليون دولار من برنامج المعونة يتعلق ببرنامج التنمية البشرية والقطاع الاقتصادي موقع عليه عام 2007 وما يزال ساريا، قد تم تجميده مقايضة تسديد لدين علي مصر. مرة أخري مثل هذا القرار بتجميد المبلغ اتخذ آحاديا، ولندع جانبا أنه منذ اعلان الرئيس اوباما يوم 19 مايو، ما بلغنا ولا وصلنا - رغم الوعود المتكررة - أي تفاصيل تخص مجمل الوعود الرئاسية. أعيد التأكيد علي طلبي، التكرم بتعليماتك الي وكالة التنمية أن تتبع الموقف الرسمي للحكومة المصرية، كذلك قوانين البلاد، وأن توقف الوكالة أي وكل نشاط لها يختص باعادة برمجة الي 150 مليون دولار، وفق ما تطلبه حكومة مصر، واني علي يقين، سيدتي الوزيرة، ان هذا المطلب سيتوافر له الاهتمام والاستجابة الفورية. و اخيرا، اسمحي لي أن أؤكد لك، سعادة الوزيرة، أن مصر اعتبرت دوما الولاياتالمتحدة شريكا استراتيجيا. وهذه العلاقة الخاصة القائمة علي الثقة والاحترام المتبادل مثار فخرنا دوما. واني علي ثقة باني أستطيع دوما أن اعتمد علي تفهمك ودعمك عند التعامل مع هذه الموضوعات الحساسة. ان قوة هذه العلاقة الخاصة تعني الكثير لمصر، واني علي ثقة بأنها تعني كذلك لحكومة الولاياتالمتحدة." كانت السفيرة الامريكية آن باترسون قد أعلنت في الكونجرس قبلها بأيام ( يونيو 2011) في جلسة استماع بمجلس الشيوخ عن تقديم الحكومة الامريكية مبلغ 40 مليون دولار في الفترة الاخيرة الي منظمات المجتمع المدني في مصر ومن ضمنها منظمتا NDI ، IRA وهما غير مسجلتين وغير مصرح لهما بالعمل في مصر.. وفي ذات الفترة، تقريبا (28 يونيو 2011) قال ويليام بيرنز وكيل الخارجية الامريكية للشؤون السياسية في لقائه مع وزيرة التخطيط والتعاون الدولي فائزة أبو النجا أن دعم منظمات المجتمع المدني في مصر يخدم المصالح الامريكية وكذلك أهداف الثورة المصرية. وذكر ان التعاقد قد تم بالفعل علي جانب كبير من المبالغ التي أعلنت عنها السفيرة باترسون ويصعب الغاؤها ثم أضاف: رغم حرص الولاياتالمتحدة بالا يؤخذ عليها انها تسعي الي استغلال الموقف في مصرلخدمة المصالح الامريكية الخاصة، الا انه ليس في وضع يسمح بتأكيد أن السياسة الامريكية ستتغير بشأن التمويل المباشر للمجتمع المدني في مصر. ثم قال ان الحكومة الحالية في مصر هي حكومة انتقالية وبالامكان التفاوض حول هذا الموضوع مع الحكومة المنتخبة الجديدة. وانتهي بيرنز بتأكيد عدم توقعه ايقاف التمويل الامريكي المباشر للمنظمات "غير المسجلة" لمجرد نقل رسالة من القاهرة الي المسؤولين في واشنطون تطالب بوقف هذا التمويل.. في 24 يوليو 2011وجهت وزارة التعاون الدولي خطابا للسفارة الامريكية للتأكيد علي ضرورة موافاة الحكومة المصرية بأية منح مقدمة لمنظمات المجتمع المدني عقب الثورة ومن خلال مبلغ ال150 مليون دولار التي أعلنت الحكومة الامريكية عن اعادة برمجتها ورفضت الحكومة المصرية ذلك. رصدت الجهات الامنية في تلك الفترة اعتزام المعهد الجمهوري IRA - الذي لم يوقع اتفاقا مع الخارجية المصرية - افتتاح مكاتب له في مصر، واجراء استقصاءات للرأي رغم أنه غير مصرح له بالعمل في مصر. كما بدأ ممثلو ذلك المعهد الشروع في استئجار بعض وحدات سكنية في مدينة الاقصر. قدمت السفيرة الامريكية باترسون الي المجلس الاعلي للقوات المسلحة قائمة تتضمن المنظمات غير الحكومية المقدم لها تمويل أمريكي خلال الفترة التي اعلن عنها الجانب الامريكي عن الفترة ما بين: أول ابريل2011 الي 11 أغسطس2011 ( اربعة شهور ونصف)... وتبين من خلال القائمة تقديم تمويل مباشر لعدد من المنظمات المصرية والامريكية والدولية في اطار بيان البرنامج السنوي للوكالة الامريكية للتنمية الدولية باجمالي بلغ 88مليون وأربعة وسبعين ألف وخمسمائة وثمانية دولار. هذا وقد تبين عديد من المخالفات في البيانات التالية: ** التمويل المتاح تم تقديمه من خلال بيان البرنامج السنوي للوكالة الذي يتضمن ال150 مليونا التي سبق ورفضت الحكومة المصرية اعادة برمجتها.. كذلك تقديم تمويل لعدد من المنظمات غير الحكومية التي لا تنطبق عليها القواعد المتفق عليهابين الجانبين المصري والامريكي والمنصوص عليها في الخطابات المتبادلة بين الحكومتين. ** وجود تباين في قيمة منح بعض المنظمات التي تم اخطار وزارة التعاون الدولي بها من جانب الوكالة الامريكية وبين قيمة المنح المخصصة لذات المنظمات في القائمة التي سلمتها السفيرة الامريكية الي المجلس الاعلي للقوات المسلحة. ** تقديم منح لجمعيات ومنظمات غير حكومية لتمويل انشطة تتعلق بالديموقراطية رغم أن تلك الجمعيات مقتصرة في نشاطها علي المجالات الاقتصادية والتجارية الاستثمارية.. غير ذلك تقديم تمويل لمنظمات غير حكومية للقيام بأنشطة سياسية رغم حظر قانون الجمعيات الاهلية تقديم تمويل لأنشطة سياسية التي تمارسها الاحزاب السياسية. بناء علي ذلك وجهت وزيرة التخطيط والتعاون الدولي فايزة أبوالنجا خطابا الي مدير بعثة الوكالة الامريكية للتنمية الدولية ( سبتمبر 2011) توضح فيه كافة المخالفات الامريكية هذه وللتأكيد - مجددا - علي رفض الحكومة المصرية تخصيص أي منح من مبلغ ال150 مليون دولار لعدم موافقة الحكومة المصرية علي اعادة برمجته لما يمثله ذلك من مخالفة صريحة من قبل الجانب الامريكي وبنص" المادة السابعة من اتفاق المعونة الفنية والاقتصادية الموقع بين البلدين عام 1978. في لقاء وزير الخارجية محمد كامل عمرو مع مساعد وزيرة الخارجية الامريكية جيفري فيلتمان (22 أغسطس 2011) اكد وزير الخارجية علي رفض قيام المعهدين الجمهوري الدولي والديموقراطي الوطني بفتح مقار لهم في محافظات مصر محذرا من احتمال أن يؤدي ذلك الي قيام الحكومة المصرية باتخاذ اجراءات من بينها طرد العاملين بالمعهدين خاصة في ضوء عملهما خارج اطار القانون. وأعاد وزير الخارجية هذا التأكيد بعد ذلك في لقائه مع وزيرة الخارجية الامريكية كلنتون في لقائهما (28 سبتمبر 2011) رفض الحكومة المصرية أي تمويل خارج اطار القانون، ورفض قيام أي منظمات غير حكومية - غيرمسجلة - وفقا للقانون المصري أن تنشيء مكاتب لها في محافظات وأقاليم مصر. ومع ذلك حدث الآتي: في (30 سبتمبر 2011) و في اصرار واستخفاف وتجاهل سافر من قبل تلك المنظمات المخالفة التي لم تحصل علي ترخيص من الخارجية المصرية، أعلن المعهد الديموقراطي الوطني NDI عبر البريد الالكتروني لعدد من الناشطين الذين سبق للمعهد تدريبهم، عن حاجته لمتخصص مقيم لعقد دورات تدريبية للأحزاب السياسية ولانشطة المعهد في مصر، ولعقد مشاورات مع القيادات الحزبية..و هي أنشطة محظورة نظرا لعدم ابرام المعهد الامريكي ذلك الاتفاق النمطي مع الخارجية المصرية الذي يصرح له العمل في مصر. كما تم رصد تحرك من مؤسسة فريدوم هاوس لافتتاح مكتب لها في القاهرة رغم عدم ابرامها تصريح الخارجية المصرية أن تعمل في مصر. ثم ورد الي وزارة التعاون الدولي اطارا من الوكالة الامريكية للتنمية الدولية (أول ديسمبر 2011) يفيد بتقديم منح مالية جديدة لعدد من منظمات المجتمع المدني من خلال بيان البرنامج السنوي وأيضا الي عدد من منظمات من خارج نطاق (غير الحكومية) و.. للقيام بانشطة غير متفق عليها في اطار برنامج الديموقراطية والحكم ومبلغ ال150 مليونا التي رفضت الحكومة المصرية اعادة برمجته. عند هذا الحد وجهت وزيرة التخطيط والتعاون الدولي خطابا الي مدير بعثة الوكالة الامريكية في القاهرة للتأكيد علي رفض الحكومة المصرية اعادة برمجة ال150مليون دولار، كذلك رفض تقديم منح من خلال هذا المبلغ، والاعتراض علي النهج الامريكي المتبع في هذا الشأن، ومطالبة الحكومة الامريكية التوقف فورا عن صرف من المبلغ المذكور.