جمال الغيطانى النص المسرحي وأن تشاهده ما أوسع الفرق بين أن تقرأ الحي اللاتيني، باريس، المركز الثقافي لفرنسا والروحي، حيث جامعة السوربون، والكوليج دو فرانس، والبانتيون حيث يرقد عظماء فرنسا إلي الأبد، والمكتبات الشهيرة ومعاهد العلم والأبحاث. منطقة تذكرني بالقاهرة القديمة، أحرص علي الإقامة فيها والسعي خلال أزقتها وشوارعها الضيقة باستمرار كلما نزلت باريس. في شارع هوشيه يوجد مسرح هوشيه، واجهة صغيرة تعلن عن استمرار مسرحية الكراسي ليوجين يونيسكو كاتب المسرح الروماني الأصل، أحد أقطاب موجة اللامعقول في المسرح. تعلن اللافتة عن استمرارها للعام الثاني والخمسين، أما مسرحية المغنية الصلعاء فللعام الثامن والأربعين، استمرار مسرحية أكثر من نصف قرن لمما يثير الفضول، لا يتغير المتفرجون عبر الأجيال فحسب، بل الممثلون أيضا والفنانون، أي كل من لهم صلة بالعرض، كثيرا ما توقفت أمام نافذة التذاكر متردداً، أتأمل صور العروض، والمقالات المنشورة عنهما عبر نصف قرن، وفي كل مرة أسأل نفسي، كيف سأفهم؟ إنني لا أتقن اللغة الفرنسية، إلي أن عزمت أمري الاسبوع الماضي عند زيارتي لبارس، وقررت أن أشهد العرض، مدفوعا بحبي ليونسكو الذي اقرأ بعض أعماله في كل سنة مرة، تماما مثل قصص تشيخون، وموبي ديك لهرمان ميلغل، والقضية لكافكا، وجسر علي نهر درينا لإيفو اندريتش، والجريمة والعقاب لدستوفيسكي، قليلون أولئك الكتاب الذين اقتربوا من الحياة الإنسانية ونفذوا إلي معناها الدقيق، الخفي، بالتأكيد.. يونسكو أحدهم، لحسن الحظ أعماله في متناول القاريء العربي، ترجمها الدكتور حمادة ابراهيم المتخصص في أدبه، وصدرت الأعمال الكاملة أولا في سلسلة مسرحيات عالمية بالكويت، ثم صورت في مجلدين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، هكذا صحبت معي النص مترجما إلي اللغة العربية، قرأته مرتين، في الطائرة، وعند وصولي، ثم اتجهت إلي المسرح لأحجز مكاناً في حفلة الغد »الاثنين«، أصبحت أحفظ النص تقريباً بالعربية، بحيث يمكنني متابعة العرض وفهم ما يجري فوق خشبة المسرح، باللغة الفرنسية التي لا أتقنها. انتظمت في طابور صغير يتكون من حوالي خمسة عشر شخصاً، كان بينهم رجل عجوز ربما تجاوز التسعين، ولحسن الحظ لم يكن هناك مطر، إذ سبق في صباح اليوم نفسه أن وقفت منتظراً في طابور طويل امتد إلي أكثر من كيلومتر لكي أصل إلي مدخل متحف أورسي للفن الحديث والذي كان في الأصل محطة للقطار وتم تحويله إلي متحف من أحدث متاحف العالم، اضطررت إلي الوقوف أكثر من ساعة ونصف حتي أصل إلي المدخل لأدخل ببطاقتي الصحفية! وكان المطر غزيراً حاولنا الاحتماء منه بالمظلة، كذلك الأمر عندما اضطررت إلي الانتظار وقتا أقل في الفناء الفسيح المؤدي إلي متحف بيكاسو، كان المطر غزيراً أيضا، الطوابير في باريس أمام المتاحف، وأمام صناديق الدفع في المكتبات، عقبالنا! علي أية حال لم يكن هناك مطر في ذلك المساء، لكن الانتظار طال أمام النافذة الضيقة جداً رغم محدودية عدد الواقفين، وعندما أبديت الدهشة وخاطبت أول الواقفين بالإنجليزية، ابتسم وأشار إلي النافذة قائلا إن السيدة تتحدث في الهاتف. استأذنت من الواقف خلفي وتقدمت لأري، كانت السيدة متقدمة في السن، تتحدث عبر الهاتف بلا انقطاع، وخلال حديثها لا تكف يدها عن الحركة، بدا لي الأمر وكأنه جزء من مسرح يونسكو، خاصة أن حديثها طال أكثر من نصف ساعة، أخيرا تحرك الطابور، وعندما وصلت إلي النافذة سألت عن امكانية حجز مقعد مساء اليوم نفسه، فقال لي إن ذلك ممكن، بعد أقل من ساعة فتح الباب الذي رسم عليه لوحة من الأبيض والأسود لجنود من سكوتلنديارد، لافتة ولوحة لم تتغير منذ سنوات. دخلت إلي قاعة المسرح، كأنني انتقلت إلي زمن آخر، كل ما في المسرح يذكر بالقرون الوسطي، الجدران مغطاة بزخارف يغلب عليها اللون القرمزي، كذلك، ستارة المسرح، يتسع لحوالي أربعين متفرجا، المكان صغير وكأنه أحد المسارح التجريبية، لا توجد أرقام محددة للجلوس، بل يحق لكل متفرج الجلوس حيثما شاء، اخترت مقعداً في منتصف المسافة حتي يمكن لي رؤية المنظر العام.. أغلق الباب ولم يكن هناك مكان خال، خفتت الأضواء بالتدريج، ثم ارتفع الستار، صالة بيت، الأثاث يوحي بالقدم، مكتب بدون ادراج، إلي جانبيه مقعدان، ثمة بابان في الجدار، لفترة غير قصيرة يظل المقعد خاليا، ثم تسمع صوت الخادمة آتيا من الخلفية تجيب بعد رنين الجرس: حاضر.. حالا. اللغة عبر الذاكرة النطق بالفرنسية يستدعي النص الذي قرأته بالعربية، تظهر الخادمة، امرأة متينة البنيان، جسورة النظرات، لا أدري لماذا تذكرت »ريا« في مسرحية »ريا وسكينة« الشهيرة، تفتح الباب وتدخل التلميذة، في المسرحية يحدد يونسكو عمرها بثمانية عشر عاما، لكن الممثلة التي ظهرت علي خشبة المسرح تتجاوز الأربعين، غير أن ثيابها مدرسية وترتدي جوربا قصيراً وتمسك حقيبة صغيرة من حقائب التلميذات الصغيرات، التناقض بين هيئة التلميذة، وملامح الوجه المتقدم في العمر، يبدو أنه إضافة من المخرج، إذ لا يوجد أثر لهذا في النص. بعد أن تجلس التلميذة إلي المقعد الأيمن، تخرج الخادمة لاستدعاء الأستاذ، في هذا الوقت تتصرف التلميذة وكأنها إنسان آلي، وتخرج كراسة تتلو بعضا مما دون فيها، الصوت سريع وكأنه صادر عن اسطوانة تدور بأسرع مما قرر لها، يظهر الأستاذ، انه ضخم، طويل القامة، متقدم في العمر، يرتدي حلة من طراز سموكنج، الممثل حضوره قوي. الأستاذ: صباح الخير يا آنسة.. انت، انت طبعا التلميذة الجديدة، أليس كذلك؟ التلميذة: (تلتفت في حيوية، بادية الرشاقة في انطلاقة الفتاة الاجتماعية، تنهض تتقدم نحو الأستاذ وتمد يدها) نعم.. لم أحب أن أصل متأخرة. هذا ما جاء في النص المكتوب، فوق خشبة المسرح، التلميذة تبدو مبتسمة دائماً، ولكن في لحظة معينة تغيب هذه الابتسامة، خاصة مع تصاعد الحوار وبدء الدرس الذي يبدأ عادياً، ثم يتعقد ويتطور، وتتحول ملامح وجهها إلي خوف، ثم إلي إرهاق، ثم إلي ذعر في النهاية، يسأل المدرس: الأستاذ: كم يساوي واحد وواحد؟ التلميذة: واحد وواحد يساوي اثنين الأستاذ: (مندهشا من معرفة التلميذة) أوه، شيء عظيم، انني أري انك متقدمة جداً في دراستك، سوف تحصلين بسهولة علي الدكتوراه الكلية، يا آنسة. التلميذة: إنني سعيدة جدا، سيما وأنك أنت الذي يقول ذلك الأستاذ: نتقدم قليلاً، كم يساوي اثنان وواحد؟ التلميذة: ثلاثة الأستاذ: ثلاثة وواحد التلميذة: أربعة الأستاذ: أربعة وواحد التلميذة: خمسة الأستاذ: خمسة وواحد التلميذة: ستة يستمر الحوار هكذا، حتي يقول الأستاذ الأستاذ: هائل، انت هائلة، انت مرموقة، أهنئك بحرارة، لا داعي للاستمرار، بالنسبة للجمع فأنت رائعة، والآن إلي الطرح، قولي لي بشرط ألا تكوني متعبة، كم يساوي أربعة ناقص ثلاثة؟ يستمر الحوار في التصاعد المتوتر، وتضطرب الإجابات بقدر اضطراب الاسئلة، بينما يبدو الأستاذ عصبيا،ً تمتزج نظراته تجاه التلميذة بالقسوة والرغبة معاً، تشتبك النظرات وتفترق، تبدو التلميذة مرهقة، متعبة التلميذة: خمسة.. إذا كان ثلاثة وواحد يساوي أربعة فإن أربعة وواحد يساوي خمسة. الأستاذ: ليس كذلك، ليس كذلك أبداً، إنك تميلين دائما إلي الجمع، ولكن يجب أيضا أن تطرحي، لا ينبغي فقط أن ندمج، يجب أيضا أن نفصل، هذه هي الحياة، وهذه هي فلسفتها، وهذا هو العلم، وهذا هو التقدم والحضارة. التلميذة: نعم يا سيدي خلال الدرس، تدخل الخادمة، تتطلع إلي الأستاذ بقسوة واحتقار معاً، وسيطرة، انها تمارس عليه تأثيراً ما، شيئا فشيئا تصبح التلميذة مرهقة، إلي درجة الانهيار،، وعندما تسقط فوق المقعد، يتقدم المدرس ليطعنها بالسكين، وتأتي الخادمة لتحمل جثتها إلي الخارج، يقف المدرس منهكا، ويخرج، وتخلو الخشبة لعدة دقائق، ثم يرن الجرس، وتظهر الخادمة لتفتح الباب لتلميذة جديدة، وليبدأ درس جديد، وينتهي مصير. التمثيل كان رائعاً، ثلاثة، المدرس والتلميذة والخادمة، سيطروا تماما علي المسرح وعلي المتفرجين، وبالنسبة لي كانت تجربة هي الأولي من نوعها، أن أتابع عرضا مسرحيا بلغة وأن أتلقاه بلغة أخري في رأسي، تكرر التصفيق الحار، وتكرر رفع الستار وإسداله، وعندما خرجت كان العرض قد ترك عندي اسئلة عديدة، أبسطها، إلي ماذا يرمز المدرس؟ والخادمة والتلميذة؟ لماذا الموت المفاجيء؟ أي درس هذا؟ كنت مزدحما بالأسئلة، وهذا جوهر الفن العظيم أن يطرح من الاسئلة ما يدفعنا إلي محاولة التوصل إلي أجوبة، أما العرض نفسه فقد ترك عندي أثراً عميقاً، مؤكداً الفارق الشاسع بين أن تقرأ النص المسرحي وبين أن تشاهده. من ديوان الشعر العربي قال المتنبي أري علل الأشياء شتي ولا أري التجمع إلا علة للتفرق قال ابن زيدون أضحي التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا