مصر لا تبدأ من مصر القريبة إنها تبدأ من أحجار طيبة إنها تبدأ منذ انطبعت قدم الماء.. علي الأرض الجديبة ثوبها الأخضر لايبلي، إذا خلعته.. رفت الشمس ثقوبه إنها لاتعرف الموت، فما الموت إلا عودة.. أخري.. قريبة. هكذا هي مصر كما قال عنها أمل دنقل، وهي كما العنقاء في الأسطورة القديمة، من الرماد والركام تنهض وتولد من جديد. مصر أسطورة وظاهرة يؤكدها منهج العلم وقانون الطبيعة. وهي أشبه في ذلك بظاهرة الانبثاق التي احتفت بها علوم البيولوجيا، حيث تبزغ صفات مغايرة وخصائص جديدة في الكائن الحي لم تكن متوقعة من مكوناته الطبيعية ومفردات كيانه العضوي. ورغم أن قانون الطبيعة حتم قاهر يسري علي كل الموجودات سواء في عالم الجماد أو عالم الأحياء إلا أن الكائنات الحية تخضع أيضا في صفاتها وخصائصها للتعليمات الصادرة من الموروثات "الجينات" في الخلايا ومؤثرات الطبيعة والوسط المحيط بها وطرائق التعليم والتربية والمخزون الثقافي والعادات والتقاليد ونظم الاجتماع والسياسة والتحديات القائمة. ولهذا تتبدي الفروق بين الأشخاص والكيانات بما حصلوه من معارف وما كونوه من تجارب وخبرات ووعي وتفكير وإدراك. من هنا فإن مأثورنا الشعبي لم يخالف الحقيقة إذ يري مصر كما العنقاء ذلك الكائن الخرافي القوي العنيد السرمدي الضخم الذي من بين ذرات الرماد وجزيئات الركام يولد من جديد. إنه الانبثاق Emergence. الانبثاق كانت عنوان محاضرة ألقاها في الستينيات في جامعة كوبنهاجن البروفسير "أرنست ماير" أستاذ البيولوجيا في جامعة هارفارد الأمريكية، وهي نظريته التي ضمنها كتابه الشهير "هذه هي البيولوجيا" This is biology.. في هذه المحاضرة أشار ماير إلي رفضه لفكرة أن كل صفة من صفات النظم الحية يمكن توضيحها عن طريق دراسة المكونات الأدني "الجزيئات والجينات" وكانت رؤيته أن الكائنات الحية لها نظام تسلسلي كلما ارتقينا فيه تكشفت خصائص لم يكن بالإمكان التكهن بوجودها من مجرد معرفة المكونات. قال هذا فارتجت القاعة من جرأة الفكرة العلمية وتوقع د. ماير هجوما كاسحاً عندما طلب التعقيب البروفسير "نيلز بوهر" صاحب نظرية الأطياف الذرية، لكن لحسن الطالع أكد بوهر أمام الحضور أن ظاهرة الانبثاق حقيقة واقعة نلمسها كل يوم فمن الأكسجين والهيدروجين وكلاهما غاز تتكون قطرات الماء وتنبثق الحياة. وأحسب أننا أمام هذه الظاهرة العلمية وإزاء تحققها في واقعنا العربي الذي يعيد إحياءه وبعثه مخاض الربيع العربي الذي أيقظ ضمير الأمة وفجر كوامن قوي الشعوب وأعاد للعقل العربي يقظته بعد سبات عميق راوغته فيها أحاجي وأحابيل وسياسات نخب حاكمة فاسدة ومتسلطة مارست معه القهر والغش والخداع ورهنت مستقبل الشعوب بإرادات حكام الصدفة والتخلف والانهزام فغيبت كل أفق للحرية والعدالة والنهضة. استيقظت شعوب الربيع العربي الملهم وأطاحت برءوس أنظمة التبعية والعشوائية والتخلف بينما لاتزال جيوب الأنظمة الساقطة ممرسة في أماكنها تمارس الكيد والمكيدة وتحاول ذيولها إجهاض الثورة وإجهاد الثوار واستلاب لحظة التوهج والمواجهة والحقيقة، يشاغلوننا بغباء نخبة ضالة وسلطة مترددة متردية وبجرائم الأفعال وسخائم الادعاء والأقوال ويسلطون علي شبابنا النقي الوطني الثائر ترسانة إعلام هزيل مسطح وتافه سلحوه بكل هذا الهراء الذي يشي بالانبطاح والتنطع والتفريط فتأتي فضائياتهم وكلماتهم وسخافاتهم لا من أبجدية أصيلة وقاموس عربي يعرف للرجولة والوطنية والاحترام حقوقها وإنما هي أبجدية المنافع الضيقة وقاموس خدم المنازل المشبوهة وعلب الليل الماجنة التي لا تعرف عرض أو شرف أوخجل، وما نعايشه في واقع الثورة المصرية ومساراتها المتعثرة ومحاولات تطويقها بنفس أساليب النظام الساقط الذي لايعرف حرمة لدماء شهدائنا الأبرياء ولايقدم مجرما واحدا قتل شبابنا في العباسية ومحمد محمود واحداث السفارة الاسرائيلية ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية وكل جرائم الثورة المضادة وتواطؤ النخبة وانتهازية البعض وتآمر البعض وتردد الآخرون، كل هذا لن يجدي وستنتصر الثورة، فلاأحد يستطيع قهر الشعوب إذا ثارت ولاأحد يستطيع إظلام الشمس إذا ما سطعت وستنهض مصر من جديد، وكما العنقاء تعلن انبثاق أفق جديد وعصر جديد وكيان جديد، ورغم عتامة الصورة والتباس الرؤي فإننا علي يقين أن مصر حتما قريبا تولد من جديد. إنه الانبثاق الذي أعلنه د. ماير من كوبنهاجن، ستدشنه إرادتنا، ومهما كانت رومانسية الثورة وسلميتها أمام آلة قتل مجرمة غبية ستنتصر أحلامنا في الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية والنهضة، ويا لها من دلالة أن مصر التي علمت العالم فجر الضمير وروعة الإيمان بوجود الخالق العظيم ومعني الخلود وأننا جميعاً نرد إلي عالم الغيب والشهادة محاسبون أمام ناموس العدل وقانون الفضيلة، هي التي تعلم الدنيا الآن كيف يكون الانبثاق، من العلم إلي السياسة، وحتما إلي العدل والمستقبل والنهضة. راجعوا تاريخ مصر لتعرفوا أنها لا تبدأ من مصر القريبة، إنها تبدأ من أحجار طيبة، ثوبها الأخضر لايبلي، إذا خلعته.. رفت الشمس ثقوبه، إنها لاتعرف الموت، فما الموت إلا عودة..أخري.. قريبة.