السبت: إذا كان الفيلسوف العربي »ابن خلدون« قد ذكر في كتابه »المقدمة« ان السحر كان له شأن كبير في مصر الفرعونية، فإن الباحث البريطاني »سير واليس بادج«، ذكر في كتابه »السحر المصري«، أن لدي الفراعنة وهم أصحاب أقدم حضارة معروفة حتي الآن، العديد من الحكايات التي وردت في البرديات التي تم العثور عليها في معابدهم ومقابرهم، عن السحر والسحرة.. ومن هذه الحكايات أن ساحرا اسمه »تيتا« عاش في عهد الملك »سنفرو« -وازدادت شهرته في عهد ابنه الملك »خوفو«- ذهب إلي قصر الملك تلبية لدعوة ملكية.. وعندما أدخله أحد رجال القصر إلي البهو الكبير وجد نفسه في حضرة الملك وعدد من الكهنة.. وطلب منه الملك ان يستعرض قدراته السحرية، فخر ساجدا، ثم جثا علي ركبتيه وطلب إحضار أوزة وسكين، فجاءوا إليه بهما.. وذبح »تيتا« الأوزة، ووضع رأسها في أقصي الجانب الشرقي من البهو، وجسمها في أقصي الجانب الغربي..
ثم وقف في الوسط، وأخذ يردد بعض الكلمات بصوت خافت..
فإذا بالرأس والجسم يتحركان، كل منهما في اتجاه الآخر ببطء شديد.. واستمرا كذلك حتي عاد الرأس إلي مكانه الأول في أعلي العنق والتصق به.. وعندئذ رفرفت الأوزة بجناحيها، وهي تصيح بصوتها المعروف.. وإمعانا في إرضاء الملك والترفيه عنه، أعاد »تيتا« العملية مرة أخري.. ولكنه في هذه المرة استخدم ثورا كبيرا بدلا من الأوزة!! والسحر تألق أيضا وازدهر عند الفرس علي أيدي الذين تعلموا فنونه من سحرة وفدوا اليهم من بابل..
واذا كان الفرس قد استمدوا اغلب معتقداتهم الدينية من تعاليم »زرادشت«، وحفظوها في »الافستا« الذي يعتبر أقدم كتاب مقدس عندهم.. فان »زرادشت« نفسه يعتبر مؤسس فنون السحر في بلاد فارس.. وقد تضمنت تعاليمه الكثير من الطقوس السحرية التي تعين الانسان علي تحديد موقفه من الصراع المحتدم بين اله الخير »اهو راما زاد« واله الشر »اهوريمان« للاستحواذ عليه بعد موته..
وقد اتقن الكهنة الفارسيون فنون السحر، وتفوقوا في ممارسته، مما جعل نفوذهم يشتد، وسطوتهم تتفوق علي سطوة الأباطرة. وفي اليونان القديمة، ازدهر السحر أيضا.. ومع ان كل الدلائل تؤكد ان السحر قد انتقل الي اليونان من مصر.. فان هناك من يشير الي ان بعض السحرة الفرس قد انتقلوا إلي اثينا، بعد غزو الاسكندر الاكبر لبلادهم، حاملين معهم ثقافاتهم وغيبياتهم، وعملوا علي نشر سحرهم بين اليونانيين..
واستطاعوا ان يجعلوا بعض ملوك الاغريق يؤمنون بأن نجوم السماء تراقب سلوكهم، وتتحكم في مستقبل حياتهم كما يعتقد الفرس. أما عند الرومان القدماء قاوم القياصرة السحر مقاومة عنيفة.. وفرضوا من العقوبات الصارمة علي ممارسته ما يكفي لحمايتهم من شروره إلا ان السحرة وجدوا الطريق مفتوحة امامهم بعد ذلك ليحظوا بمكانة رفيعة في المجتمع الروماني القديم، بعد ان اثبتوا وجودهم باستعراض قدراتهم السحرية المتفوقة.. وكان اشهر السحرة في روما هو »الكسندر دي بافلاجونيان« الذي كان يستطيع تخليص المرضي من آلامهم وأوجاعهم، والتنبؤ بأحداث المستقبل، والقيام باعمال تتعارض مع القوانين الطبيعية.. مما جعل الأمبراطور »ماركوس« نفسه يلجأ اليه ليستشيره في أدق الأمور. وفي مقدمتها أمور الحرب! وفي أقصي مشارق الأرض كان لفنون السحر دور وشأن.. وقد امتزج السحر بالديانة »الطاوية« التي كانت سائدة في الصين.. وهي مثل الديانة الزرادشتية الفارسية. تقول بوجود قوتين متصارعتين علي اقتسام الكون.. الأولي خيرة، والثانية شريرة.. والديانة »الطاوية« لاتزال موجودة في بلاد الصين حتي الآن.. ولا يزال كهنتها يمارسون الوانا من طقوسهم السحرية، لطرد افراد الجن الذين يتسلطون علي اجساد بعض الناس، ويسببون لهم أمراضا عصبية مثل الشلل، والروماتيزم والعجز الجنسي والبله. وكان الوخز بالإبر الذي يستخدمه أطباء العصر الحديث معروفا عند سحرة الصين القدامي، وكان يعتبر احد الفنون التي يجيدها السحرة.. وإذا انتقلنا إلي الهند فإننا سنجد ان كهنة جميع الأديان الموجودة فيها يمارسون اعمالهم السحرية في حفلات ليلية مهيبة، يعبق جوها بدخان الأعشاب ورائحة البخور. والكهنة الهنود بصفة عامة كانوا يقومون بترديد تعاويذهم علي انغام المزمار.. ويستخدمون المراهم وعظام الموتي، والمساحيق ذات الألوان المتعددة وسموم الأفاعي، في علاج المرضي وتخليصهم من عللهم المستعصية.. وكان في استطاعتهم علاج العقم عند النساء. ولايزال أغلب الكهنة في الهند يمارسون السحر حتي يومنا هذا لجلب الحظ، وانزال المطر، ومعرفة نوع الجنين، ومقاومة الاوبئة الفتاكة، والسيطرة علي الافاعي الشرسة، والاتصال بالجن وتسخيره لخدمة أغراضهم. السحر في »هايتي« وعن السحر في »هايتي« تقول الباحثة البريطانية »ماياديرين« انه يمتزج بالدين.. وان الكاهن هناك يتمتع بإرادة قوية.. وهو يستخدم هذه الارادة في السيطرة علي رعاياه وعلي الآلهة أيضا.. وفي وسعه استدعاء نفوس الموتي ودعوتها الي التجسد والتحدث معها.. وهو أيضا طبيب يخلص مواطنين من جميع الامراض.. ويمارس بعد ذلك الشعوذة. أما عالم السكان الفرنسي »الفريد ميترو«، فيقول إن الشعوذة الموجودة في هايتي دين له طقوس، وشرائع، ومعابد، وكهنة.. وأن الآلهة فيه متعددة.. وأن هذا الدين قائم حتي الآن ومزدهر في تلك الجزيرة التي تقع في البحر الكاريبي، والتي ينحدر معظم سكانها من أصل أفريقي.. فقد كانت »هايتي« محطة لسفن تجار الرقيق العاملة بين أفريقيا وأمريكا.. وكان سكانها الأسبان - في ذلك الوقت- يشترون بعض أولئك الرقيق لاستخدامهم في زراعة الأرض.. ومع أن السادة الأسبان استطاعوا إخضاع هؤلاء الأفارقة التعساء واستعبادهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من انتزاع معتقداتهم وأفكارهم من داخل رؤوسهم.. وعاما بعد عام تزايدت أعدادهم حتي أصبحوا خمسة وتسعين في المائة من السكان.. وأدي ذلك إلي ازدهار نفوذ كهنتهم وأعمالهم السحرية الخارقة. ويقول »الفريد ميترو« أن ديانة سكان »هايتي« تقوم علي أن الإنسان روح وجسد.. وأن الأرواح حين تفارق الأجساد بالوفاة، فإنها تذهب إلي أقرب نهر، أو مجري ماء عذب، لتستقر في قاعه لمدة عام كامل، قبل ان تصعد إلي السماء.. وخلال هذا العام يتحتم علي ذويها الأحياء إقامة احتفالات دينية، يؤدون خلالها بعض الطقوس الخاصة، بعد أن يقوموا بوضع تماثيل من الفخار فوق منصة من الخشب، لتحل فيها أرواح موتاهم التي تجئ لتشاركهم هذه الاحتفالات.. ثم يقدمون لهذه التماثيل القرابين لكي ترضي عنهم وتمدهم بالحماية والبركة!! حكايات أخري من »هايتي« وتقول الباحثة الانجليزية »مايا ديرين« في كتابها »حكايات من هايتي« إنها عندما ذهبت إلي »هايتي« ضمن إحدي البعثات العلمية في عام 0491، استأجرت منزلا للإقامة فيه، وألحقت إحدي بنات »هايتي« في خدمتها طوال فترة إقامتها.. وذات ليلة استيقظت من النوم علي صوت صراخ الخادمة فهرعت إليها.. كانت تتألم بشدة، وتتلوي علي الأرض وهي تمسك بيديها الجانب الأيمن من أسفل بطنها.. وعندما استدعت الطبيب قال ان الزائدة الدودية ملتهبة وتوشك علي الانفجار.. وقرر ضرورة إجراء جراحة لها فورا.. لكن الخادمة رفضت الذهاب إلي المستشفي، وطلبت أن يحملوها إلي الكاهن.. وتقول »مايا ديرين« إنه لم يكن في استطاعتها أمام صراخ الخادمة وتوسلاتها سوي أن تحملها في سيارتها إلي الكاهن.. الذي وضع يده برفق علي موضع الألم، بعد أن قام بإحراق بعض البخور، وتلاوة بعض التعاويذ، فهدأت الخادمة واستغرقت في النوم.. وشفيت بعد ذلك تماما دون إجراء أي جراحة لها!! ويقول »سبنسر سان جون« أحد قناصل بريطانيا السابقين في »هايتي«، إن كهنتها، يقومون بأعمال مرعبة اثناء ممارستهم طقوسهم السحرية.. وأن بينهم من يمارس أفعالا شاذة مثل مص الدماء، وأكل لحوم البشر.. وعندما عاد إلي لندن نشر كتابا مثيرا بعنوان »هايتي.. أو الجمهورية السوداء« ذكر فيه أن كهنة »هايتي« يتمتعون بمكانة مرموقة بين أتباعهم ومواطنيهم، وأن لهم نفوذا في منتهي القوة.. وأن أشهر أنواع السحر التي يقومون بها هي تلك التي تؤدي إلي إنزال ألوان من العقاب الوحشي ببعض من يخرجون علي طاعتهم.. وهم يقومون بذلك من خلال التماثيل الصغيرة، أو الصور.. حيث يضع الكاهن التمثال أو الصورة في وعاء به ماء، ثم يبدأ في طعنها بطرف سكين حاد، أو سن إبرة طويلة، وهو يردد بعض الكلمات.. فإذا تحول الماء اثناء ذلك إلي دم فإن معناه الموت المحقق للضحية في نفس اللحظة، أو بعد بضع دقائق!! وسواء رفضنا هذه الحكاية أو صدقناها، فإن هناك من الأعمال الخارقة التي يقوم بها السحرة الكهنة في هايتي وغيرها الكثير، الذي أرجو أن أتمكن من العودة إلي الحديث عنه فيما بعد!!