د.عمرو عبدالسمىع لابد ان هناك شيئا آخر أكتب عنه غير تلك المنظومة المكرورة المتأزمة التي وقعنا في إسارها طوال شهور خلت والتي تفاجئنا مباغتة بين لحظة وأخري، بأحداث كئيبة وسوداوية لا يمكن الاحاطة بتداعياتها أو تحديد ملامحها اللهم الا السقوط في قبضة الخوف، والشعور الجارف بالتوقع.. لا شيء يعيدنا الي الطقس الانساني والوطني الرائع لثورة 52 يناير في اسابيعها الأولي، ولا شيء يتواصل مع إبداعات وفنون الشباب في ميدان التحرير، وينتظمها في مجري واحد، أو نهر وجدان جمعي يسقي الغيطان الشراقي العطشي لمياه الأمل في انتقال الثورة الي تأسيس وجود ديمقراطي وعادل، يصير قاعدة الدولة الجديدة في مصر. فقط.. هي لمعات تومض من وقت الي اخر بلا انتظام، ومن دون سابق اخطار.. ووقعت - مؤخرا- في قناة فضائية اسمها »الشباب« علي احداها وكانت عرضا غنائيا بالعرائس عنوانه »سيرة مصر علي الربابة« عن فكرة وسيناريو الكاتب الصحفي أبوالعباس محمد وأشعار عبدالستار سليم، وإخراج عمرو الاشرف. قطعة من الابداع الحقيقي استلهمت طريقة الفلاسفة الشعبيين الرواة في حكاية السير، وترنيمها علي نغمات بعينها يعرفها أهل جنوبالوادي حق المعرفة، كما صرنا نعرفها- جميعا- وندندن بها مع كبار الرواة: جابر أبوحسين، وسيد الضوي ونسلهما بفضل وإحسان، وتعبير وإبداع، فيما بدا وكأنه ترانيم لها مسحة من القدسية يؤدونها بضراعة وتبتل، ويتوارثون صياغاتها جبارة التراكيب، ونصوصها الايقونات علي مدار التاريخ. يحكي (عرض مصر علي الربابة) قصة ثورة 52 يناير من خلال عدد من العرائس يمثل جوقة رواة شعبيين صعايدة، يبدأون انشادهم علي خلفية من مباني ميدان التحرير »المتحف- المجمع وغيرهما« مستفتحين السيرة- كالتقليد المتبع- بالصلاة علي النبي »زينة الكلام مدح طه.. والمدح هوه البداية،. فرش القوالة وغطاها.. سيرة رسول الهداية« ثم - ومن اللحظة الأولي- يقتحم عبدالستار سليم مشاعر جمهوره المنصت، بأحكام سياسية وأخلاقية كاسحة لها منطق الثورة ذاتها، في رسائلها المباغته والعنيفة. »الحكم والوزرا فاسدين- وآدي كل ركن بفساده.. لا للي عاش في النَّجس دين.. كيف دول علي الشعب سادوا.. يا خاين الملح والعيش.. وبلاد علت في شانك.. نشنت ع الشعب والجيش.. والرب خيب نشانك«.. وقبلما أسترسل في الحديث عن الطريقة الفريدة والبسيطة الممتنعة التي صاغ بها الشاعر نصه حتي تبدو القصيدة وكأنها صاغت نفسها، لابد لي من وقفة تقدير لصاحب الرؤية أبوالعباس محمد الذي عرفناه كاتبا سياسيا وساخرا في عدد كبير من الصحف القومية والحزبية والخاصة.. اذ كان اختياره شديد الذكاء لفن العرائس كيما يكون وسيط الحوار مع الجمهور، هو أحد عوامل نجاح هذا العرض، وتعظيم قدرته علي الوصول والنفاذ.. العرائس هي.. بطبيعتها- وسيلة »شعبية« وهي نوع من التمثيل بالوكالة، ووسيلة ناقدة لا تطبطب علي الناس، وهي تجمع بين الاغتراب عن الواقع، ومع هذا يجيء كلامها كله عن ذلك الواقع!!. وليس في عروض العرائس ما يمكن تسميته SICO - distance أو العائق النفسي، اذ يمكن للعروسة ان تتكلم، ويرد عليها احد افراد الجمهور. بمعني ان المشاركة والتفاعل موجودان، لا بل ربما في صوتيهما الاكثر تحققا ولقد توقفت امام ملمح المشاركة بالذات في عروض الاراجوز الشعبية المصرية وفي عروض punch and Juddy البريطانية. أو فيما طالعت عن عروض بونزاكو اليابانية وغيرها. والتي كانت عبر الفرسجة أو منتهي الهزل- تقوم بتصنيع عملية دراما تورجية للترفيه والتثقيف تواصلت حلقاتها عندنا في فنون خيال الظل وصندوق الدنيا.. واخيرا في فن الاراجوز وقد جاءت اللفظة الاخيرة من قرة بمعني اسود. وقوز بمعني عين وتشير الي الغجر سود العيون الذين احترفوا تحريك العرائس. ورواية الحكايات.، وتضمينها رسائلهن اللاتي لا يستطعن البوح بها مباشرة وعلانية، محرضين المقهورين علي ترديدها بنحو ينال من الظالمين، ويطيح المتغطرسين، وينزع قناع الزيف عن وجوه ادعت الطيبة والانسانية، وأخفت التوحش والطمع والانانية. وبالقطع تتذكرون أهم عروض عرائس تضمنتها شرائط سينمائية مصرية وكان اخرها في مقدمة فيلم الزوجة الثانية من تأليف الاستاذ رشدي صالح واخراج الاستاذ صلاح ابوسيف، وتشخيص السيدة سعاد حسني، والاستاذ صلاح منصور، والثاني في فيلم »الاراجوز« من اخراج الاستاذ هاني لاشين، وتشخيص الاستاذ عمر الشريف والسيدة ميرفت أمين.. وفيه أنشد المبدع الاستاذ سيد حجاب أروع ما وصف الدور السياسي والتحريضي للأراجوز.. فضلا - بالطبع- عن العروض المسرحية الشهيرة »الليلة الكبيرة وصحصح لما ينجح« الا ان اهمها- علي المستوي السياسي- كان »حمار شهاب الدين« للاستاذ صلاح جاهين. والذي لم يبث علي التليفزيون المصري الا مرات معدودات طوال اربعين عاما لانه يقول بأن السحر الاسود المرصود لن ينفك الا حين يحكم احد القضاة بالعدل وهو ما صار أمرا متعذرا، نادرا، وعسيرا، أو قل مستحيلا!. ولقد كان لمصر مدرسة عرائس متميزة شهدت أوجها علي يد الاستاذ صلاح السقا المخرج مدير مسرح العرائس رحمة الله عليه. وأعود الي »سيرة مصر علي الربابة« لابي العباس محمد الذي عمل ابناؤه معه بذلك العرض الجميل في احياء لظهورات العائلات الفنية التاريخية المصرية »خلود مصممة عرائس وجرافيك- ويوسف مساعدا لطه صلاح الذي صمم المسرح« إذ تنساب عبر رؤية الصحفي الصعيدي اشعار وكلمات عبر الستار يوسف. يا بلدنا يا أم العجايب.. اصبحنا فيكي غرابة.. والفكر واخد وجايب. خلاكي حسني خرابة.. عملوا مخطط شيطاني.. علشان يورثها لابنه. قسم بيوتي وغيطاني.. خد قمحي وادالي تبنه«.. هذا الحكي المأساوي عن سنوات زرح فيها الشعب تحت نير الاستبداد والفساد تمدد- علي طول العرض الفني الجميل- طارحا تجليات كل منهما علي نحو يقوم بتجهيز الجمهور. المشارك للانفجار تلقائيا في ثورة »غازنا باعوه لاسرائيل.. شفت اللي كان واللي جاري.. وباعولي أنا مية النيل.. مخلوطة مية مجاري« و»دول زوروا الانتخابات« والمجلسين قسموهم.. وملوا بلدنا عصابات.. والبلطجية حموهم«. وفي لحظة انفجار الثورة كانت الحكمة الشعبية السياسية في العرض هي »لما قالو له يا فرعون مين فرعنك فين ما تمشي« قال ما لقيتش نفرعون.. نبوته شوح في وشي.. لكن ولاد مصر نحوه.. وإتعرضوا للمهالك.. هزوا ضمير مصر صحوه.. فتح بيبان المسالك«. أجمل ما في عرض »سيرة مصر علي الربابة« ان صانعيه لم يبدوا لنا كتجار عاديات صعيدية يحاولون الاتشاح بالحقيقية والشعبية.. أو يتاجرون بالتراث المحلي في إدعاء صلة وهو من المدعين براء. انت تشعر أن ذلك العرض كان ينبغي له ان يكون صعيديا بالذات، ليس لان صائغيه صعايدة ولكن لانهم علي تواصل حار ومستمر بأهاليهم الذين ائتمنوهم علي رسالتهم.. فكلفوا العرائس ان تذيعها وتشيعها بالوكالة.. وكان اختيار قالب السيرة الانشادي بديعا لان فيه عبق تاريخي يسرد ويحكي الوقائع، كما ان فيه مسحة اسطورية هي الانسب في حكاية ما جري في 52 يناير شبيه الخوارق والمعجزات والاساطير.