تعكس نتائج المرحلتين الأولي والثانية من الانتخابات البرلمانية المصرية ذات المراحل الثلاث حقيقة أن حركة الإخوان المسلمين قد حصدت، عبر ذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة، أغلبية كبيرة ستمكنها من أن تكون القوة الرئيسية في البرلمان الذي سيتشكل وفقا لنتائج الانتخابات. ولا تمثل هذه النتيجة مفاجأة بالنسبة لمتابعي الشأن السياسي المصري طوال العقود الماضية، ولكن هذه النتيجة لا تشكل سوي مجرد عنصر دال يتوافق مع نتيجة أخري،من جملة نتائج، أفرزتها المرحلة الأولي من الانتخابات، وهي ذلك المد السلفي الذي مكّن الأحزاب السلفية من الحصول علي المركز الثاني بعد ممثلي الإخوان المسلمين مما يؤكد - في حال تكرار نتائج مشابهة في المرحلة الثالثة - أن البرلمان القادم ستهيمن عليه أغلبية مؤلفة من نواب الإخوان المسلمين ونواب الأحزاب السلفية التي يأتي حزب النور في مقدمتها. ولا يملك المتابع لمجريات الممارسة السياسية المصرية في عقودها الأخيرة إلا أن يهنئ مؤيدي تلك الأغلبية المتوقعة؛ فمادمنا قد توافقنا علي الاختيار الديمقراطي فلا بد من القبول بالنتائج المتولدة عن تفعيله علي مستويات الممارسة السياسية. ولكن المحلل المنصف لا يستطيع إلا أن يهنئ بقوة الحزب الوطني المنحل أيضا؛ لأنه عامل أساسي في صناعة تلك النتيجة، وذلك ما يؤكده قدرٌ من التحليل المتأني لنتائج المرحلة الأولي من الانتخابات في سياق العلاقة بين ممارسات الحزب الوطني وانعكاساتها علي راهن العمل السياسي ومستقبله في مصر. ورغم أن هذا التحليل سيكتفي بالوقوف عند زاوية واحدة من زوايا الظاهرة فإنه سيراهن علي أن تجليتها كافلةٌ لمجموعة من النتائج العامة التي يتوقع المرء أن تتبلور في المستقبل القريب في مجال الممارسة السياسية علي الساحة المصرية. فهذه النتيجة التي أفرزتها المرحلتين الأولي والثانية من الانتخابات هي انعكاس مباشر لطريقة الحزب الوطني في إدارة العملية السياسية في مصر؛ فقد رفَع شعارات الحرية والديمقراطية، ولكنه اكتفي بمنحها لأعضائه ورجاله في مختلف المؤسسات والمواقع، وأضاف إليهم الكثير من المزايا التي حُرم منها أصحاب الكفاءات في مختلف مؤسسات الدولة المصرية. وترك أنصاره ومؤيديه يروّجون في مختلف وسائل الإعلام والاتصال أفكاره الزائفة عن إنجازات حكومة الحزب وعن الخير الوفير الذي سيعم علي المصريين حينما يستكمل الحزب تحقيق مخططاته في التنمية والإصلاح! وفي مقابل هذا مارس مجموعة من السلوكيات القمعية ضد الإخوان والسلفيين وضد كل القوي الوطنية التي رفضت استبداده، ولكنه لخبث قادته ودهاء مفكريه ممن وضعوا شروطا قذرة لإدارة الحياة السياسية المصرية استطاع أن ينوّع أساليب القمع والتفتيت وفقا لطبيعة القوة السياسية للخصوم السياسيين؛ كل علي حدة. فإذا كان قد تدخل مرارا لإضعاف حزب ذي جماهيرية تاريخية كحزب الوفد عن طريق إثارة الصراع بين زعمائه علي رئاسة الحزب فإنه اصطنع مجموعة من الأحزاب الكرتونية التي لا وجود لها في الشارع السياسي، ومنح كلا منها إمكانية إصدار صحيفة ناطقة بأفكاره ومموَّلة من أموال المصريين. ولكنه أدرك أن الإخوان يتطلبون نوعا آخر من القمع يتلاءم مع تعاطف شرائح من المصريين معهم، ويتناسب مع الوجود التاريخي لهم علي مدي عقود تبدأ من نهاية عشرينيات القرن العشرين، ومن ثم تنوعت الأساليب فكان الاعتقال والسجن وسيلة دائمة لقمعهم، وحِيل بينهم وبين ممارسة الحياة السياسية العلنية؛ فقد ثبت لزبانية الحزب الوطني أن إتاحة حرية محدودة في الانتخابات ستمنح الإخوان والمعارضة الحقيقية إمكانية جيدة لتحقيق وجود ملموس ومؤثر في البرلمان، وليست قائمة الثمانية والثمانين نائبا في برلمان عام 2005 إلا حالة دالة في هذا السياق. ولما كان منظرو الحزب ومسئولوه السياسيون قد أدركوا أن الإخوان علي قدر من الدهاء السياسي الذي امتلكوه نتيجة الخبرات المتراكمة التي حصّلتها أجيالهم من العمل السياسي السري فقد تفتقت القدرات العبقرية لزبانية النظام عن خطة شاملة لمحاصرة الإخوان والمعارضة الحقيقية في مجالات الممارسة النقابية طوال ثلاثة عقود، فإذا كان ممثلو الإخوان في مجالس النقابات المختلفة كالمهندسين والأطباء والتجاريين والمحامين وفي مجالس إدارة نوادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات قد حققوا مجموعة من المكاسب، فقد كان مسلك حكومات الحزب الوطني متسقًا مع التوجه القمعي العام للحزب ومؤسساته وأنصاره، فكان أن عطل الحزب الوطني مجالس معظم النقابات ونوادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات كي يفوّت علي الإخوان وأبناء المعارضة الحقيقية إمكانية إدارة النقابات المهنية. وفي تزامن مع هذا وذاك كان الإخوان يعون الدرس جيدا فينشئون الجمعيات الخيرية والمراكز الخدمية والطبية في مختلف ربوع مصر، كي تصل أفكارهم إلي مختلف شرائح المجتمع المصري. ولعل الإخوان كانوا يسخرون من الإعلام الرسمي وهو يطنطن عبر سدة نظام مبارك بالحديث عن ديمقراطية النظام ويهيئ المصريين لديمقراطية أوسع سيحققها الشبل جمال مبارك، ولم تكن سخريتهم إلا لأنهم كانوا يدركون مثلما كان ملايين المصريين يدركون أيضا ساخرين كذبَ الأضاليل التي يروجها الإعلام الحكومي. وكان الإخوان في الوقت ذاته يتمتعون بقدر من حرية الحركة في الجمعيات الخدمية والمساجد، فيصلون إلي شرائح عديدة من المصريين في بقاع مصر كلها. ولهذا لا يتشكك المرء في وجوب تهنئة رجال الحزب الوطني ومفكريه وأنصاره وسدنة نظامه؛ لأنهم جميعا عامل أساسي في تهيئة السبيل أمام الإخوان المسلمين والسلفيين لنيل ثقة كثير من المصريين في الانتخابات البرلمانية. ولكن الدرس الذي سيبقي من تلك التجربة هو أن الديمقراطية الحقيقية تتطلب منح مختلف القوي السياسية إمكانية الحركة في المجتمع وإمكانية تقديم رؤاها للجماهير لتفكر وتتأمل وتقارن ثم تختار علي نحو واعٍ ومسئول. ولعل لهذا الدرس يظل حاضرا لدي الأغلبية البرلمانية في البرلمان القادم.