في هذه الاسابيع الأخيرة من العام الحالي يتذكر الكبار في السن من العراقيين حكمة الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر: "علي الاستعمار ان يحمل عصاه ويرحل". صحيح انه قالها عن الاستعمار البريطاني الذي كان جاثماً علي صدر مصر، لكن الاحتلال الامريكي القبيح للعراق هو من نسل ذلك الاستعمار البريطاني الدميم لارض الكنانة والعراق وفلسطين. لم يستقبل العراقيون جيش الاحتلال الامريكي بالورود، ولن يودعوه بالورود. لكن الورود والشموع والحلويات هي تعبير العراقيين بهذه المناسبة في كل بيت قتل أو اعتقل أو عَذب أو هَجّر المحتلون واحداً أو أكثر من سكانه وفي كل مدينة عراقية دمرها "جورج بوش" جنكيزخان العصر. ماذا يتذكر العراقيون اليوم من أيام الاحتلال الامريكي السوداء طوال أكثر من ثمانية أعوام غير الاحزان والخراب والمهانة؟ أكثر من مليون شهيد وأكثر من مليون أرملة وأكثر من خمسة ملايين يتيم ودمار يفوق دمار الحرب العالمية الثانية في أوربا وفتنة طائفية وهجرة وتهجير بالملايين في الداخل والخارج ونهب ثروات العراق بلا حساب وسرقة وتدمير متاحفه ومكتباته ومؤسساته وإلغاء جيشه الوطني وشرطته الوطنية وفضائح أبي غريب ومعتقلات بوكا وفكتوري وفساد حكومات العملاء الذين تآمروا في واشنطن ولندن وطهران علي شعبهم ووطنهم. ماذا يتذكر العراقيون من الاحتلال الامريكي غير المذابح والانفجارات وبحور الدماء؟ سيتلفت العراقيون فلا يجدون الا الأسي والبؤس والفقر والذل. ليس هناك أي إعمار أو إعادة إعمار. أوشك الكابوس علي الانتهاء، لكن آثاره ستظل شاخصة الي مئات السنين. هنا مورست أكبر كذبة عدوانية في التاريخ عن إمتلاك العراق أسلحة دمار شامل، فتم إجتياح البلد وإحتلاله وتدميره وتقسيم شعبه الي طوائف وقوميات عرقية ومذهبية تكاد ان تصل في نهاية المطاف الي دويلات وإمارات ومشايخ وإقطاعيات ليس في أي منها مقومات الدولة المحترمة إلا الراية. لكن ما يُعزي الوطنيين والمقاومين العراقيين ان هزيمة الولاياتالمتحدة في هذه الحرب الكارثية أكبر من هزيمة العراق. لقد جاءت أميركا الي بلاد الرافدين حاملة شعارات التحرير والديمقراطية والرفاهية والعدل وحقوق الانسان. وها هي تجرجر أقدامها من مستنقع الغزو ملطخة بعار ثماني سنوات من الاحتلال والفوضي والفقر والظلم والاحزان التي لها أول وليس لها آخر. والراية الكريهة التي سلمها مجرم الحرب بوش الي خلفه باراك أوباما لم يستطع الأخير ان يجعلها راية ترفرف بمعاني الحلم الامريكي الذي حدثنا عنه أوباما طويلاً. لقد كان كابوساً ثقيلاً علي صدور العراقيين وصدور الامريكيين ايضاً الذين فقدوا نحو خمسة الاف قتيل وعشرات الالوف من الجرحي والمعاقين وتريليونات الدولارات لكي تخرج أميركا في النهاية من العراق وتدخل ايران وتتربع علي العرش! ولحسن الحظ ان الولاياتالمتحدة لم تُهزم في العراق وحده، ولكنها إنهزمت في المنطقة كلها بعد ان تبين الخيط الابيض من الخيط الاسود، فاكتشف العرب المخدوعون بالأمركة انهم أُكلوا يوم أُكل (بضم الالف) الثور الابيض، وان أمريكا ليست بريئة من دم يوسف. وظهر موقف أمريكا علي حقيقته في جلسة الاممالمتحدة الأخيرة حين عارضت أعلان قيام دولة فلسطين، بعد ان "شرب" العرب "مقلب" خطاب أوباما الشهير في جامعة القاهرة في يونيو 2009 عما وصفه بالعمل علي قيام صداقة مع العالم العربي والاسلامي ودعم قيام دولة فلسطينية مستقلة. بالنسبة للعراق أوشك العدو الامريكي المؤقت علي الرحيل، لكن العدو الدائم والجار الجائر ايران هي أسوأ خلف لأسوا سلف. إنتهي الاحتلال الامريكي وبدأ الاحتلال الايراني، والاثنان وجهان لعملة رديئة واحدة.