الدولة تعني النظام، واللادولة تعني الفوضي، الدولة لها مقومات لا تقوم إلا بها، ولا تكون الدولة دولة إذا اختل ركن منها، وهي: الأرض، والشعب، والحكومة، والنظام. الدولة تعني احترام عمل المؤسسات الوطنية، وإعلاء حكم القانون ونفاذه علي الجميع، فهذا سيدنا أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يقول: »أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتي أريح عليه حقه - إن شاء الله -، والقوي فيكم ضعيف عندي حتي آخذ الحق منه - إن شاء الله-».. وهو ما أكده أيضا سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عند توليه شئون الحكم، وألزم نفسه إياه، وعمل علي أخذ عماله به، وكتب إلي أبي موسي الأشعري عامله علي الكوفة: »آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك، حتي لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف جورك»، فطلب منه المساواة بين الناس حتي في مجرد النظر والمجلس، فلا يقدم أحد الناس علي الآخر ولو في مجرد موقعه من المجلس أو طريقة مثوله بين يديه فيه، حتي لا يظن أن له دالة عند القضاء أو الاقتضاء. الدولة تعني تقديم العام علي الخاص، والمتعدي النفع علي القاصر النفع، والمصلحة العامة علي الخاصة، فيقدم إنشاء طريق أو ما في حكمها علي مصلحة شخص ما في عدم قسمة أرضه إلي قسمين، أو حتي إزالة منزل مع تعويض صاحبه بالقيمة العادلة لصالح النفع العام. فقه الدولة يعني فهم طبيعتها، ومشروعية إقامتها، وحتمية الحفاظ عليها، وتأكيد أن هذا الحفاظ يعد أحد أهم المقاصد الضرورية العامة التي دعا الشرع الشريف إلي الحفاظ عليها. الدولة الوطنية تقوم علي احترام عقد المواطنة بين الشخص والدولة، وتعني الالتزام الكامل بالحقوق والواجبات المتكافئة بين أبناء الوطن جميعًا دون أي تفرقة علي أساس الدين أو اللون أو العرق أو الجنس أو اللغة، غير أن الجماعات الضالة المارقة المتطرفة المتاجرة بالدين لا تؤمن بوطن ولا بدولة وطنية، فأكثر هذه الجماعات إما أنها لا تؤمن بالدولة الوطنية أصلًا من الأساس، أو أن ولاءها التنظيمي الأيديولوجي فوق كل الولاءات الأخري، فالفضاء التنظيمي لدي هذه الجماعات أرحب وأوسع بكثير من الدولة الوطنية والفضاء الوطني. والمحافظة علي الدولة تتطلب ألا تنشأ في الدول سلطات موازية لسلطة الدولة أيا كان مصدر هذه السلطات، فهو لواء واحد تنضوي تحته وفي ظله كل الألوية الأخري، أما أن تحمل كل مؤسسة أو جماعة أو جهة لواء موازيًا للواء الدولة فهذا خطر داهم لا يستقيم معه لا أمر الدين ولا أمر الدولة. أما فقه الجماعة فلا يشغل منظريه سوي قضايا السمع والطاعة للجماعة وما يصب في مصلحتها ولو علي حساب الدين والدولة معا، فلو اقتضت مصلحة الجماعة أن تقوم علي أنقاض الدولة ما ترددوا طرفة عين، ولضحوا بالدولة لصالح الجماعة، بل علي العكس من ذلك فإن معظم نظرياتهم بنيت علي خلفية هدم الدولة، وزرع الفرقة بين الشعوب وحكامها، مع قيام منظريهم بلي أعناق النصوص وتحريف الكلم عن مواضعه واجتزائه من سياقه أو اقتطاعه منه، وتأويله تأويلا منحرفا لخدمة أفكارهم وأيديولوجياتهم الضالة المضلة. إن ما تقوم به هذه الجماعات المتطرفة هو عين الجناية علي الإسلام، ذلك أن ما أصاب الإسلام من تشويه لصورته علي أيدي هذه الجماعات لم يصبه عبر تاريخه علي أيدي أعدائه، بل إن أعداء الإسلام لو استنفدوا ما في جعابهم من سهام ما بلغوا معشار ما ارتكبته هذه الجماعات الإرهابية من تشويه لصورة الإسلام. ولا يمكن لعاقل أو وطني أو فاهم لدينه فهمًا صحيحًا أن ينكر أن حصاد دعوة هذه الجماعات المتطرفة المتدثرة ظلمًا وزورًا وزيفًا بعباءة الدين فقد كان حصادًا مرًّا شديد المرارة، حيث زرعوا أشواكًا، فجَنَينا حنظلًا وعلقمًا، وصار لزامًا علينا بذل أقصي الجهد لإصلاح ما أفسدته هذه الجماعات الضالة المارقة.. ولا يتأتي ذلك إلا بالخروج من ضيق الأفق الفكري والمعرفي إلي رحابة الأفق دينيًّا وفكريًّا وثقافيًّا ومعرفيًّا في إطار الحفاظ علي الثوابت وفهم طبيعة المتغيرات، ووضع كل من الثابت والمتغير في موضعه بميزان شديد الدقة والفهم ومراعاة طبيعة الواقع وظروفه ومستجداته.