انتماؤنا وولاؤنا للوطن أولا.. وهناك ثقافة توحدنا علي اختلاف مشاربنا.. وتحقق للجميع العدل والمساواة السبت: أشد ما يقلقني هو ان تجئ وقت يشعر فيه المجتمع بأسره بانه يفقد مناعته. ويزداد القلق بسبب اقناعي بأن خطر الانفصام الثقافي يأتي من باب الطائفية التي تعني »التطيف«، أي الانغلاق في طائفة ما والتعصب لها والاستقواء بها والتماهي معها. وعندما ينعزل »المتطيفون« عن سائر أبناء وطنهم ويبنون لذواتهم منظومة فكرية خاصة متعارضة مع الثقافة العامة والوطنية الشاملة.. يقع الشرخ في الشخصية الوطنية وتبرز النزاعات التي تجد من يغذيها من الداخل والخارج باسم الدين والتدين والأصالة وغير ذلك. ولكي نبقي متحضرين، فان الثقافة يجب ان تكون »ثقافة المواطنة الواحدة«، فهي الثقافة التي توحدنا علي اختلاف مشاربنا، وهي التي تحقق للجميع العدل والمساواة.. فباسم المواطنة يصبح انتماؤنا وولاؤنا للوطن أولا، وتصبح وحدتنا الوطنية سدا منيعا في وجه كل التدخلات الخارجية ومعطلا لكل الانقسامات الداخلية. الثقافة العامة الأحد: قال لي صديقي الاستاذ الجامعي: خلال تدريس مادة الانثروبولوجيا -علم يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه وعاداته ومعتقداته- في بعض الجامعات العربية.. كنت ألاحظ ان الطلاب يصابون بالذهول عندما يكتشفون الأوجه المشتركة لدي المسلمين والمسيحيين، والتي تتجلي عندما يحتفل هؤلاء وأولئك بأعيادهم الدينية الشعبية ويمارسون شعائرها وتقاليدها وعاداتها الاجتماعية بينما كانوا يظنون انها تندرج كلها في خصوصياتهم الثقافية. حقا.. لا توجد في عالم اليوم ثقافة واحدة متفردة كاملة الصفاء فجميع الثقافات تتداخل فيها عناصر من ثقافات أخري، وقد دخلتها في الماضي والحاضر وستدخلها مستقبلا. والثقافة -في منطوق العلوم الإنسانية- تحمل العديد من التحديدات. بعض العلماء يحددها بشكل ضيق نسبيا ويعني بها العلوم والفنون والآداب والفكر والمعارف، والبعض الآخر يحددها بشكل أوسع ويضيف إلي ما ذكرنا.. التكنولوجيا مثلا. أما الاتجاه الثالث فانه يمتد ليجعل ميدان الثقافة شاملا لكل ما يشكل في مجتمع من المجتمعات.. العادات والتقاليد والفولكلور. الاتجاه الحديث الغالب هو النظر إلي الثقافة علي أنها ما يشكل هوية الإنسان وانتماءه إلي مجتمع معين، وبالتالي نظرته للذات وللآخرين وانتهاجه لمجموعة من القيم التي يسير بموجبها -وهي ما يفرحه ويحزنه وما يستثير غضبه وثورته وما يطمئن ضميره أو يؤثمه.. فالثقافة هي فعل مراجعة ونقاش وجدل، وهي قدرة الإنسان المعاصر علي ان يتمكن من استيعاب تحولات الكون في محاولة السيطرة علي هذه التحولات والتعايش معها. وبهذا المعني الواسع للثقافة تصبح الخصوصيات الثقافية للطوائف جزءا من الثقافة السائدة أو العامة. هشام عبدالحميد الخميس: الفيلم الذي يحمل عنوان »لا« وقدمه الفنان القدير هشام عبدالحميد رسالة موجهة إلي الجميع تندد بكل أنواع القهر والاستعباد والعنف والقمع والتسلط والتعذيب والديكتاتورية والفتنة الطائفية. لقطات عديدة موحية في الفيلم تسخر من الدوران في الحلقة المفرغة التي يضعنا فيها المفاوض الاسرائيلي، ومن الحدود المصطنعة بين الدول العربية، وتستنكر كل أشكال التضليل السياسي والفكري والاعلامي. ثمة رفض قاطع لتحويل المواطنين إلي مجرد آلات أو ادوات طبيعة من صنع الحكام كما يشتهون. كما لو كان الفيلم يريد ان يقول لنا »لكي لا تنسوا الجرائم التي ارتكبت ضد البشرية في السنوات والعقود الماضية«. وشعرت بقلبي يخفق وبهزة في أعماقي.. وانا استمع إلي صوت المناضل الافريقي »نلسون مانديلا« وهو يتغني بالحرية والتحرر والمساواة بين البشر، وكذلك صوت رائد حركة الحقوق المدنية المناضل الأمريكي الأسود »مارتن لوثر كنج« وهو يدافع عن حقوق الإنسان، ويعلن أمام مواطنيه ان لديه ذلك الحلم الذي لن يتنازل عن تحقيقه إلي ان يعرف الجميع بحقوق الإنسان. الفيلم يقدم انشودة للحرية ودعوة للتسامح والحرية والديمقراطية والاخاء والمساواة والعدل والمواطنة. ويعتمد الفيلم علي »البانتومايم«- التمثيل الصامت«، مما يتطلب قدرة غير عادية من جانب الممثل، ويستعير اشكالا من المسرح التجريبي. والفيلم يكشف الخلل العميق الذي استوطن بلادنا وعالمنا لسنوات طويلة، وهو بمثابة صيحة تحذير لايقاظنا من السبات العميق الذي يعوقنا ويشل خطواتنا، كما ان الفيلم يدق الطبول معلنا ان العالم قد تغير، وان الانظمة القديمة المعادية لحقوق الإنسان لم تعد صالحة للاستمرار وسوف تتفكك وتتصدع وتنهار، فهو ليس زمن معسكرات الاعتقال والابادة، وليس زمن الطغاة.. فقد فتحت ثورة 52 يناير الأبواب لعالم جديد. انني احترم الفنان المهموم بقضايا وطنه المصري والعربي وبقضايا الإنسانية كلها.. فهو صاحب رسالة وموقف، ويعرف موقعه بين هؤلاء الذين يستخدمون كل إمكاناتهم لبناء حياة جديدة.. أفضل. ومن هنا يكمن تقديري واحترامي لفن هشام عبدالحميد. أزمة الاجتهاد الاثنين: الاجتهاد يعني وجوب تقديم الجواب الشرعي الممكن في ما يستجد من أحداث. هناك مخلصون يريدون ان يبرهنوا علي قدرة الدين علي مواكبة الحياة في التغيير والتبدل، وقدرته علي الفعل في أزمتنا المعاصرة. أحد رموز الفكر العربي الاصلاحي المعاصر »محمد بن الحسن الحجوي« تساءل قائلا: »لماذا كان التوقف عن الاجتهاد؟ ولماذا غرقنا في وهدة الانحطاط والتقليد؟ فكان جوابه- هو نفسه - علي تساؤله: »توقفنا عن الاجتهاد في أمور الدين، لأننا لم نعد نجتهد في أمور الدنيا«.