تحلقوا كعادتهم مساء كل خميس حول طاولة في ركن دافئ يطل من خلف زجاج سميك علي شط الإسكندرية وقد لفحه هواء عاصف وموج متلاطم فتماوجت صورته تحت مطر منهمر لشتاء جاء عفياً ومبكراً. هم مجموعة من المثقفين راحوا يتداولون في أحوال الناس والدنيا قبل أن يتطرق بهم السياق إلي ما راح يقصه أحدهم وهم منصتون، تملؤهم الدهشة ويؤرقهم أمر ذلك الفتي الذي ذهب لمباراة في الذكاء والمعلومات والفطنة، فإذا به يتحول أضحوكة في نظر الآخرين ممن تابعوا حكايته في مسرح اللعبة وعلي الهواء مباشرة، وكذلك في نظر هذا الرهط من المثقفين الذين راحوا يتناقلون حكايته بشيء من الخفة والحماقة والغفلة، إذ في أحد اختبارات الذكاء سئل الفتي أسئلة كان عليه إجابتها من خيارات متعددة، كما في برنامج »من يربح المليون»، السؤال الأول: كم سنة استمرت حرب المائة عام ؟ أ- 116، ب- 99، ج- 100، د- 150. فكر الفتي كثيراً ثم اختار تخطي هذا السؤال لعدم تمكنه من إجابته، وانتقل إلي السؤال الثاني: أين تصنع قبعات بنما؟ أ- البرازيل، ب- تشيلي، ج- بنما، د- الإكوادور. واختار الفتي أن يستعين بصديق. السؤال الثالث: في أي شهر يحتفل الروس بثورة أكتوبر؟ أ- يناير، ب- سبتمبر، ج- أكتوبر، د- نوفمبر، لم يستطع الفتي الإجابة وطلب مساعدة الجمهور. السؤال الرابع: أي هذه الأسماء هو الاسم الأول للملك جورج السادس؟، أ- ون، ب- ألبرت، ج- جورج، د- مانويل. وهنا طلب حذف إجابتين وبعد جهد جهيد توصل للإجابة. السؤال الخامس: حيوان أخذت منه جذر الكناري اسمها؟ أ- طائر الكناري، ب- الكنغر، ج- الجرو، د- الفأر. وعندها لم يستطع الفتي إكمال المسابقة وانسحب. بالطبع لم يصفق له أحد بل شيعوه بالضحك والهمهمة والسخرية، ولعلك أنت أيضاَ تشاركهم الآن أساهم لغفلة الفتي وتواضع معارفه وذكائه، وقد تصور الجميع ولعلك الآن منهم أن الأسئلة رغم بساطتها كانت غبية تحمل إجاباتها في طياتها. وهنا الخدعة والمصيدة، ولعلها المغزي من الحكاية كلها. وقبل أن تتسرع قارئي العزيز كما الآخرين في الحكم علي الفتي وتورط نفسك فيضحك الناس منك وعليك، دعني أسق لك الإجابات الصحيحة، فحرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا دامت 116 سنةَ مِنْ 1337 إلي 1453، وقبعات بنما تصنع بالفعل في الإكوادور، بينما يحتفل الروس بثورة أكتوبر في 7 نوفمبر، والاسم الأول للملك جورج هو ألبرت، أما جذر الكناري فقد أخذت اسمها من الجرو حيث إن اسمها اللاتيني يعني جذر الجراء. ولعلك الآن عرفت كيف أنقذتك من نوازع النفس الأمارة بالسوء وكبرياء الجهل وجرثومة التخلف بالتعالي كذباً وبهتاناً علي الآخرين بتصور أنك وحدك تملك الحقيقة المطلقة. ولعل كثيرين منا، لولا ذكرت لهم الإجابات لوقعوا في مصيدة الاستسهال والتذاكي وخرافة المعرفة، والشعور بأن كلاً منهم »أبو العريف» الذي أتي بما لم يستطعه الأوائل، وهو سلوك ممجوج لا يجر علي صاحبه إلا سخرية الجميع والتندر علي حماقته وغفلته، وربما تسبب ذلك في تداعيات أخري، إذ لا أحد يملك الحقيقة المطلقة أو يكون وحده الذي يعرف كل شيء. ومن قال لا أعرف فقد أفتي، هكذا علمنا تراثنا الفكري الرشيد: أن تقل خيراً أو لتصمت. لا تتسرع في الحكم علي أي شيء وكل شيء، فالحياة علمتنا أن أكثر الناس سطحية وفشلاً هم أولئك الذين يحسبون أنهم أذكي من كل الناس، وغالباً هم الأخسرون أعمالاً بينما يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. الشاهد هنا، أن أصحابنا المثقفين في منتداهم الشتوي علي شاطئ الإسكندرية قد فاتهم ما شرحته لك منذ قليل، فتعجلوا في الحكم علي الفتي كما فعل أغلب من عرفوا قصته، ولعل مرد ذلك شعورهم الواهم بأنهم ملاك الحقيقة المطلقة، وحدهم من يعرفون ووحدهم من يحكمون، ووحدهم من يوزعون صكوك العلم والثقافة والمعرفة، وفي ذلك واحدة من أكبر مثالب ثقافتنا السيارة »التيك أواي» المعلبة بغير روافد أو أصول، إلا الادعاء وذهان المعرفة »أي توهم المعرفة»، يستوي هنا بسطاء شعبنا الطيب ونخبه، الكل »أبو العريف» والحقيقة أن أغلبهم الأعم لا يغدو أن يكون »أبو جهل» ذلك أن أغلبنا لا يقرأ ولا يتعلم، يعيش كما ببغاء يردد كل ما يسمعه من مسطحي العقول المفتقدين لكل معني. والأمر هنا لا يصح معه التعميم، إذ هو نسبي بدليل أن فتانا كان فطناً لخدعة الأسئلة فتروي وحاول جهده ألا يقع في مصيدة التسرع والارتجال والفتوي دون علم، ولم يشأ أن يجرب إجابات تبدو له عمياء، فلعله لفطنته كان يعرف أن الأسئلة وحدها هي المبصرة.