تظل الراقصة تتحدث اكثر من الساعة والساعتين ، تعدد مآثرها ، وتشرح فلسفتها في كيفية الهز والاهتزاز، وتتجلي بفتوحاتها وغزواتها، والمذيع امامها لا حول له ولا قوة، ولاخيار لديه الا الصمت وترك الحبل علي الغارب.. فهولا يستطيع ان يقاطعها .. في حين انه يقطع ويبتر سياق محدثه اذا كان مفكرا أو كاتبا اوعالما ! مع هؤلاء يضيق الوقت جدا، هذا الوقت الذي يطول ويطول مع أحاديث الراقصات والفنانين والفنانات، الأحياء منهم والأموات!.والمفارقة أيضا تتجلي في أنه ، بعد حصار هؤلاء الأساتذة من حراس القيم، نري هذه القناة أو تلك تنعم علينا بوصلة طرب وسهر وغناء حتي مطلع الفجر! فلا الوقت ينتهي، ولا المذيع يصرخ في ضيوفه الكبار، انتهي الوقت.. انتهي الوقت! (أجب في دقيقة واحدة )..(باختصار لو سمحت ).. (ليس عندي وقت ).. وكأن المذيعين ، قد اتفقوا علي هذه الصيغ الاستفزازية ليس للمتحدثين فحسب ولكن لنا أيضا ، فالضيف المتحدث منهمك في توصيل فكرته ، مجيبا علي سؤال المذيع الذي يحتاج بدوره الي وقت يكفيه لشرح أبعاد الرؤية ، غير أن المذيع يرهبه ب (في أقل من دقيقة من فضلك .. الوقت يداهمنا) أي استخفاف هذا؟. ولماذا تستشري هذه العدوي في كل القنوات الفضائية، وبالتحديد في البرامج الحوارية ، او التي يفترض انها حوارية؟ يتحدث »العالم« فنحاصره بالسكوت وكأنه شئ ثقيل علي الهواء.. وتتمايل »العالمة« فتتسع الشاشة وتتوهج وينصت ويحدق ويبحلق الجميع، يطرح المفكر هموم الأمة ويضئ الظلام والإظلام فينا وحولنا، فنطفئ صوته وصورته بسرعة، ويزهق فينا المغني ويرعبنا بحركاته البهلوانية وصوره البهية، فنتمني ألا ينتهي الإرسال، وندعو أن يصبح الليل أطول من ساعاته! نعم..إن من يهز وسطه، ينال أضعاف من يهز عقله.. ما من برنامج حواري نشاهده علي هذه القناة أو تلك ، إلا ونسمع المذيعين يصيحون بين الحين والآخر في وجوه ضيوفهم بلا حياء او خجل ،ولو كانت هذه الملاحظة فردية لما طرحتها، الا أنها للأسف العنيف أصبحت ظاهرة وجماعية أيضا ، في محطاتنا الفضائية ، الأمر الذي يجعل الواحد منا يكاد يتميز من الغيظ كلما شاهد واستمع .. تري .. لماذا نغلق أبواب الزمن التليفزيوني مع المفكرين وحملة مصابيح التنوير في المجتمع ؟ لماذا ساعة أن نحاصرهم بالأسئلة ، نحصرهم في أركان الشاشات العربية ( الفاضية)؟ في الوقت الذي نفتح ساعات الارسال بلا حدود للفنانين والراقصات والمطربين والمطربات الاحياء منهم والاموات ، ليقولوا ما يشاءون: فهذه تتحدث عن أزيائها إن كانت ترتدي أزياء ولذلك فهي تحب فصل الشتاء ، حتي ترتدي كل ما عندها من فساتين .. وتلك تعدد مآثرها الفنية وكفاحها المرير من أجل الحصول علي علبة ماكياج أصلية ..أما هذه الفنانة فهي تتمني للبنان الاستقرار والهدوء حتي تتمكن من التمتع بالتفاح اللبناني.. وآخر يحدثك عن غزواته التي يتضاءل بجانبها نابليون في تحوله من السينما الي غزو المسرح ..و.. و.. أين العلماء والمثقفون في المحطات الفضائية ؟ .. أليس من المفارقات.. أن نعرف تفاصيل حياة النجمة الفلانية ، وكم مرة تزوجت ... وكم مرة طلقت .. وكم مرة تشاجرت مع زوجها .. وكم .. وكم ..في حين لا نعرف قدر جناح بعوضة عن (الفيمتو ثانية) ؟ أليس من المؤلم .. ان نتابع أدق التفاصيل مع 42 ساعة في حياة الراقصة ....التي كانت تخصص لها احدي القنوات برنامجا ( من مكتبة ...) وكان يذاع كل يوم جمعة (!) ويبدأ منذ أن تفتح الهانم عينيها في الضحي، حتي تغلقها في صباح اليوم التالي .