»طباخ السم لابد من يوم يدوقه» مثل شعبي انتجته القريحة المصرية للتدليل علي أن الجزاء غالباً ما يكون من جنس العمل، لكن هذا المثل صادف ما لم يتوافر لغيره من مصداقية تاريخية تؤكدها أحداث حالة طارئة وجارية في عالمنا المعاصر فتح لها الباب واسعاً من قبل متنمر غير أخلاقي كاذب - هو دونالد ترامب علي حد وصف توماس فريدمان في النيويورك تايمز - حيث راح يبدد الرصيد الأمريكي الذي راكمته بلاده في العلاقات الدولية علي مدار سبعة عقود، ومنذ أن أسس الرئيس الأمريكي هاري ترومان حلف شمال الأطلنطي 1949 لتضمن بلاده عدم التنافس الجيوسياسي بين الدول بعد الحرب العالمية الثانية التي حولت العالم إلي غابة مخيفة تضربها الفوضي ويجتاحها الدمار. لقد كان ترومان متناقضاً كما ترامب، فرغم دعاواه التي بدت أخلاقية للحفاظ علي استقرار العالم، فقد كان هو من أمر بإطلاق قنبلتي هيروشيما وناجازاكي علي اليابان في أغسطس1945، والتدخل العسكري في الحرب الكورية 1950، وبدأت في عصره الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. لكن ترومان لم يكن فظاً جهولاً سليط اللسان كما صاحبنا، وكان صاحب رؤية ومواقف لايمكن وصفها بالهمجية والبلطجة والابتذال والسوقية والشعبوية التي مكنت لليمين المتطرف مساحات للحركة في فضاءات السياسات الأوروبية قد تقوض استقرار ومصالح القارة العجوز والعالم جراء سياسات ترامب الفوضوية التي اضرت بالجميع، لافارق بين حليف أوعدو.ولعل الصورة تتضح أكثر إذا ما ترجمت لك مقتطفاً من مقال »ستيفن إرلانجر» في النيويورك تايمز 22 سبتمبر الماضي تحت عنوان» هل يتحول العالم لغابة مرة أخري؟ يجب أن يهتم الأمريكيون؟ Is the World Becoming a Jungle Again Should Americans »are إذ يقول:» يبدو الرئيس ترامب عازماً الانقلاب علي 70 سنة من السياسة الخارجية الأميركية الراسخة تجاه أوروبا، التي يعتبر دولها منافسين أكثر منهم حلفاء»، ويضيف »لقد أطلق الرجل علي جانبي المحيط الأطلسي قلقاً مضنياً من أجل الحصول علي إجابات للأسئلة الصعبة حول الدور العالمي للولايات المتحدة، وما يمكن لأوروبا المنكوبة أن تفعله للحفاظ علي كيانها ومصالحها، في ظل وجود شريك أمريكي أقل موثوقية». وكأن الكاتب يقول أن أوروبا بسبب سياسات ترامب باتت تواجه ما يهدد وجودها وكيانها، لامصالحها فحسب. وأضاف إرلانجر: »كان وزير الخارجية الألماني »هايكو ماس» يتحدث أمام مؤتمر لسفراء ألمانيا في غضون الشهر الماضي، مطالباً بسياسة خارجية ودفاعية أوروبية أقوي في مواجهة مستقبل غامض غير متوقع، حيث النظام الدولي القائم بدأ يتآكل في عالم لا يمكن فيه اعتبار أي شيء مضمونًا في السياسة الخارجية». ثم استشهد الوزير ماس وهو اشتراكي، بالمفكر الأمريكي المحافظ »روبرت كاجان» من معهد بروكينجز وكتابه »الغابة تنمو من جديد: أمريكا وعالمنا المعرض للخطر» إذ يقول »إن انسحاب الولاياتالمتحدة بقيادة ترامب من النظام العالمي الذي أنشأته بعد الحرب العالمية الثانية سيحول العالم إلي غابة مظلمة من المصالح المتنافسة، تتصادم فيها القومية والقبلية والمصالح الذاتية». ولعل هذا ماقصده روبرت كاجان في كتابه »الشذوذ التاريخي» الذي أتاحته القيادة الأمريكية بانسحابها المضطرد من رعاية »حديقة» النظام الليبرالي العالمي الذي كان مستقراً، فحولته إلي غابة ذات مخاطر كبيرة، حيث أوروبا توترت بالفعل بسبب سياسات الشعبوية الأمريكية والفوضي، فأضحت معرضة للخطر» وهذا باد في مظاهرات فرنسا التي ربما تعاقب علي اقتراح ماكرون بتأسيس جيش لحماية أوروبا. لقد أنتج العقل الأمريكي المراوغ نظريته »الفوضي الخلاقة» ليحكم سيطرته علي عالمنا العربي المفكك والضعيف ويستلب قدراته ومقدراته، ولطالما ساعدت أوروبا علي ترسيخ هذه السياسات الكولونيالية »الاستعمارية» الجديدة، فإذا بهم جميعاً يشربون من نفس الكأس الذي أرغمونا بضعف أنظمتنا الحاكمة علي تجرعه، واللهم لا شماتة. وصدقت مقولتنا الشعبية عن طباخ السم التي أضحت اليوم تاريخية. وإذ بدوت مضطراً لهذا المثل رغم رفضي بالحكم علي الأشياء والسياسات والمواقف من زاوية قد تبدو شخصية أو مغرقة في المحلية، فقد أردت تقريب الفكرة للقارئ الكريم، وعزائي أنني لم اسمح لقلمي الانزلاق إلي منحدر الشخصنة والسطحية والشماتة والحكم علي كبائر الأمور من زاوية صغارها، أو كما يصر دائماً أن يفعل بعض الكتاب وأبرزهم الأستاذ عبد الرحمن فهمي في مقاله الجمعة 23/11 في المصري اليوم، حيث راح يحاكم ويدين أهم فترة من تاريخنا الحديث والمعاصر، ثورة يوليو وجمال عبد الناصر والتحولات الكبري التي أحدثتها في العالم، بأن عبدالناصر أساء لآل أبوالفتح والوفد، لكأنه أراد أن ينظر إلي العالم المفتوح علي تاريخ نضالنا الوطني من خرم إبرة، مستعينا بنظارات أهلكها الدهر فاستحالت عدساتها شظايا وشواش، والقياس هنا مع الفارق.