تظل القراءة والكتابة أمتع الأشياء. ربما يكون المال بالنسبة للبشر هدفا وحلما ، وهو أمر مفهوم ، لأن المال يسخر ويطوع الأشياء ، وربما تكون السلطة أملا لآخرين وهو أيضا أمر مفهوم كغريزة للإنسان الذي ما فتئ يحلم بالسيطرة علي الآخرين وتكون له الغلبة عليهم. وإذا كان المال والسلطة في مقدمة أقوي الغرائز ، تظل القراءة والكتابة أمتع الأشياء رغم أنهما ليستا من الغرائز ولا تشبعان المشاعر الحسية للإنسان. عندما سئل عدد من المفكرين : لماذا نقرأ؟ أجابوا بإجابات مختلفة ، لكن أعجبتني إجابة محمود عباس العقاد الذي قال : نقرأ لكي نضيف لحياتنا حيوات أخري. وهذه الحيوات الأخري إضافة مهمة للمتعة الذاتية في القراءة نفسها. وكما سأل بعضنا ، لماذا نقرأ ، سأل آخرون : لماذا نكتب؟. الإجابة علي هذا السؤال قد تستغرق آلاف الصفحات ، فالكتابة بشكل عام هي التاريخ والحضارة ، هي العلم والأدب والشعر ، هي الفنون بأنواعها ، لكن هناك المتعة ذاتها التي تجعل الكاتب ينتفض ليلا رغم استغراقه في النوم لكي يسجل خاطرة وردت علي ذهنه في نومه والتقطها عقله الباطن أو يدون عبارة صاغها في نومه ويود أن يوردها في كتاباته. قد يكتب أحدنا لكي يخلد نفسه بعد الممات أو لكي يعيد رؤية الأشياء من منظوره الخاص وقد يعيد مشاهد الحياة فيرسمها حسب رغبته فيرفع من شأن هذا وينتقم من هذا. وقد يود الكاتب أن يرفع صوته أمام الجميع ليقول لهم : اسمعوني ، انظروا إلي الأمور بطريقتي. قد نكتب لكي نروي القصص. فربما يكون لدينا من الحكايات ما لا نستطيع تحمله بداخلنا فنريد أن نخرجه ، لكن في صور محببة وجاذبة للآخرين وتعطي مدلولات تفيد الناس والمجتمع ، لا يكون الأمر لمجرد الحكي ، لكن لكي نقاوم أفكارا جاهلية أو نمنح أفكارا تحررية أو نرصد ظواهر آنية يحتاجها التاريخ فيما بعد أو لنناور بشأن أوضاع سياسية لا تسمح لنا بالكتابة المباشرة. يشعر بعض الكتاب بالرضا عن نفسه عندما يمارس الكتابة فهو إن كان غير قادر علي تغيير الناس والحياة من حوله ، فإنه عندما يكتب يصبح قادرا علي فعل ما عجز عنه ، فهو ينسج العوالم والشخوص في حالة الكتابة الأدبية وهو قادر علي منح الأمل في حالة الكتابة السياسية الحرة وبث الأفكار التحررية. يتمني الكتاب الحصول علي التقدير ممثلا في جائزة أو تكريم أو انتشار أوسع بتحويل القصة إلي فيلم سينمائي أو تمثيل المسرحية علي خشبة المسرح أو أن يغني مطرب مشهور الشعر الذي كتبه الشاعر ، أمله أن تنتشر قصته أو فكرته علي أوسع نطاق ، لكن ذلك ليس كل ما يهدف إليه الكاتب من كتاباته ، وغالبا يكون في ذهن الكاتب الصادق المخلص لفكرته أن يغير العالم إلي الأفضل ، هو يكتب لأنه يشعر بمتعة الخلق ، قدرته علي منح الشخوص الحياة والملامح والطباع لا يدانيها متعة ، فليس بثمن الكتابة يقًيم الكاتب أو الكتابة ، بل بقيمة ما تتركه الكتابة من أثر علي الناس والمجتمع. نكتب ما كنا نتمني أن نقرأه بهذا الشكل ، نكتب كما لو كنا قراء. نستمتع بطباعة اسمنا علي ما نكتبه ، والمتعة الأكبر عندما يعلو صوت أحدهم مادحا ما نكتبه ومعبرا عن استمتاعه بما قرأه لنا. ترقي الكتابة وتؤتي ثمارها في المجتمعات الحرة ، عندما لا يتردد الكاتب في التعبير عن فكرته أو قصته. عندما يكون علي يقين أنه لن يحاسب علي حوار جاء علي لسان شخوصه أو علي عبارات جاءت في مقاله. يكتب الكاتب ليعلي من شأن مجتمعه ، فهو ينشد الأفضل ، لكنه يفقد قدرته ورغبته في الكتابة إذا ما لم يتحقق طموحه في تغيير المجتمع إلي الأفضل. تنسال الأفكار غزيرة والعبارات جزيلة إذا ما كتب الكاتب ما يقتنع به ، بينما يسود أسطرا بأحبار ، لو كان يكتب بحكم وظيفته.