أيام الاتحاد السوفييتي كانت حرية صحفييه ، ومفكريه، ومبدعيه، معدومة تماماً. وكم سمعنا آنذاك عن أساليب قصف الأقلام توطئة لبتر الأيدي، وقص الألسنة، وقطع الرقاب التي عومل بها الصحفيون السوفييت، وهي نفس الأساليب التي انتقلت فيما بعد إلي كل الأنظمة الشمولية التي سارت علي هدي ما جري وراء الستار الحديدي! وبانهيار، وتفتت الاتحاد السوفييتي.. تباري »الإصلاحيون« الروس في التنكر للشيوعية، والاشتراكية، والتهليل والتأييد للرأسمالية، لأنها هي التي ستأتي للشعب بالديمقراطية التي حلم بها، وبمستوي المعيشة المرتفع الذي ينعم به المواطن في الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية. وسرعان ما لاحت علامات وملامح »الرأسمالية« علي طبقة جديدة من الروس، أسسوا الشركات، وأقاموا المصانع، وصدروا ما عثروا عليه في باطن الأرض من الثروات، والكنوز، الطبيعية. وبرز من بين هؤلاء من تفوق علي مليارديرات أقدم الديمقراطيات الرأسمالية، ومنهم من أفقدته الثروة صوابه، واتزانه، أبرزهم هذا الملياردير الروسي المقيم في لندن والذي احتفل منذ أيام باستلامه »اليخت« الجديد الذي بلغ ثمنه400 مليون يورو. أكرر: 400مليون يورو .. حتي لا تتصوّر عزيزي القاريء أنني أخطأت، أو ربما بالغت في تحديد الرقم. وإذا كانت أشياء كثيرة الإيجابي منها والسلبي قد حدثت بعد تفتت دول الاتحاد السوفييتي، فإن الشيء الذي »عاد إلي قواعده الثابتة« فهو: استمرار قصف الأقلام المعارضة، واستخدام الرصاص في التخلص نهائياً من الصحفيين، والإعلاميين، الذين لا يعجبهم العجب في نظام الحكم الحالي والذي رأسه »بوتين« عام2000، ثم تخلي »طواعية« عن الرئاسة بعد انتهاء فترة ولايته، واختار أحد المخلصين له »ميدفيديف« ليتولي رئاسة البلاد لفترة واحدة علي طريقة المحلل يعود »بوتين« بعدها بأسلوب ديمقراطي، قانوني، دستوري لرئاسة روسيا لفترة ثانية. وحتي لا يفكر، أو يطمع، الرئيس الصوري الحالي »ميدفيديف« في البقاء، والتمديد لنفسه في الكرملين، قرر »بوتين« قبول العمل خلال الفترة الانتقالية الحالية رئيساً للحكومة: مسئولا،ً ومراقباً، ومسيطراً علي كل شئون ومؤسسات الدولة.. قاطعاً بذلك الطريق أمام أية محاولة من جانب الرئيس المحلل »ميدفيديف« للتخلص بمن جاء به إلي الكرملين! ولإنجاح هذا »السيناريو« الجهنمي.. حافظ النظام الروسي علي استمرار قمع الصحفيين، وردع المعارضين، والتخلص معنوياً وجسدياً من كل الخصوم والأعداء داخل البلاد. ولم يختلف مصير الصحفية الروسية »آنا بوليتكوفسكايا« عن مصير من راحوا قبلها ضحايا القمع الصحفي، والردع الإعلامي. ربما الاختلاف الوحيد أن من سبقوها لم يحظ واحد منهم بمثل ما حظيت به »آنا« من صدمة، وذهول، وتنديد الرأي العام العالمي والمحلي لحظة الإعلان عن اغتيالها في 7 أكتوبر2006 أمام باب مصعد العمارة التي تقيم فيها في وسط موسكو. جمعيات حقوق الإنسان، ومراكز صحفية عالمية، شجبت الجريمة، وتحسرت علي حرية الصحافة في روسيا، وطالبت موسكو بالكشف عن القتلة، ومن أمروهم بالقتل. في مارس2007 اختيرت الصحفية الفقيدة »آنا بوليتكوفسكايا« لنيل »الجائزة العالمية لحرية الصحافة« عن تحقيقاتها الرائعة، والمذهلة، في تغطية فضائح، وجرائم التعذيب التي سجلتها خلال الحرب التي شنتها القوات الروسية ضد »الشيشان«. وهي التغطية التي شجعت بعض الكتاب العالميين علي إصدار العديد من الكتب عن مشوار حياة »آنا«، والذي توقف ذات يوم من شهر مارس عام 2006 برصاصتين الأولي: أصابت قلبها، والثانية: اخترقت جبهتها. كما عكف آخرون علي ترجمة الكتب والمقالات والتحقيقات التي كتبتها، ونشرتها، وأصدرتها »آنا بوليتكوفسكايا« إلي العديد من اللغات الأجنبية لتكون في متناول أيدي من سمع عن اغتيالها، ولم يكن قد قرأ لها من قبل. كثيرون سمعوا عن »آنا« لكنهم لم يتعرفوا علي كفاحها وتضحياتها من أجل إظهار الحقائق خاصة تلك التي كان من المحظوركشفها، أو نشرها، مثل »الحرب في الشيشان« التي انفردت برفع ستار وسياج السرية عن فظائعها، وأهوالها، وترويع المدنيين الذين لا علاقة لهم بجرائمها، ولا بمرتكبيها. خلال عشر سنوات متصلة.. شكلت »آنا بوليتكوفسكايا« مشكلة كبري بالنسبة للنظام الحاكم الروسي. وهي مشكلة تتجدد، وتتضخم، مع كل تحقيق عن الحرب تنشره، ومع كل ستار سري ترفعه لتكشف ما كانت تخفيه من أهوال، وفظائع. .. وللحديث بقية.