ما زال الحديث عن كواليس ثورة 25 يناير يتواصل، ليس من خلال الوجوه التي ملَّ الناس من إطلالتها عليهم عبر شاشات الفضائيات، متحدثين في كل شاشة بما يناسبها ويناسب توجهاتها، ومنظرين للثورة ومحددين للثوار طبقا لأهوائهم وأغراضهم الشخصية. ولكن الذين نتحدث عنهم هنا هم شباب حقيقيون، بسطاء، موهوبون، عاشوا الثورة بكل عنفوانهم وبطموحهم في غدٍ أفضل، لهم ولأبناء الوطن طولاً وعرضًا، لم يكن خروجهم لشيء في نفوسهم، أو في نفوس غيرهم، وإنما كان في سبيل الوطن، ومن أجل تحقيق أحلامهم المجهضة تحت وطأة ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة لحالة الحلم ذاتها! واليوم نواصل مرة أخري مع زكي خلفة، مؤسس »رابطة فناني الثورة« التي ولدت في ميدان التحرير، ليحدثنا عن مظاهرة الفنانين التي قادتها الرابطة، وجابت شوارع العاصمة لتحشد عددًا ضخمًا من المتظاهرين، رغم هطول المطر، وكيف عادت إلي ميدان التحرير، مرة أخري، لتنضم إلي المعتصمين فيه، ونسجل شهادته الخاصة بالواقعة الشهيرة للاعتداء علي المطرب تامر حسني في قلب الميدان، باعتباره أحد شهودها. ولكن قبل الدخول في تفاصيل المظاهرة والواقعة، يواصل خلفة كلامه عن معرض الرابطة الذي أقيم أمام كنتاكي بجهود ذاتية، فيقول: بدأ معرض "رابطة فناني الثورة" يجتذب عددًا كبيرًا من الموجودين، فاضطررنا إلي إقامة مرسم آخر بالقرب من مدخل كوبري قصر النيل، صنعناه من المشمع والخشب، والغريب أننا كنا نعمل في الميدان وكأننا لن نتركه يومًا! كنا نعمل بإخلاص من أجل مصر لا من أجل أنفسنا، حتي أن أحد المعتصمين قال لي، وكأنه يوصيني، بعد تنحي الرئيس السابق واقترابنا من ترك الميدان: "حافظوا علي الشغل دا.. الشغل دا مش ملككم.. دا ملكنا كلنا.. ملك مصر". كان هذا الكلام يؤجِّج في نفسي مشاعر إجلال لشعبنا المصري العظيم، الذي بهر العالم بفهمه الراقي وإحساسه المرهف، وكنت أشعر أن كلمة السر هي: "الفن"، وقد تأكد هذا المعني بجلاء في مظاهرة الفنانين التي تقرر أن تنطلق من شارع عدلي لتصل إلي الميدان، وقد جهزنا لافتة كبيرة باسم رابطتنا، وتجمعنا في نقطة محددة في الميدان، ومنها انطلقنا إلي النقابة فوجدنا هناك تجمعاً بسيطاً من الفنانين يتقدمهم: خالد صالح وخالد أبو النجا وعمرو واكد، ولم يكن عددهم يتجاوز المائة، وبهذا العدد بدأنا المسيرة من شارع عدلي متجهين إلي ميدان التحرير، وكان أعضاء الرابطة يتقدمون المسيرة التي بدأت تجتذب آخرين، وعندما وصلنا الميدان كان العدد أكبر كثيراً، لكن الفنانين رفضوا الدخول إلي الميدان، وأصروا علي التجول في شوارع العاصمة القريبة لاجتذاب عدد أكبر، وكانوا يرددون هتافًا واحدًا لم يتغير: "يا أهالينا انضموا لينا". ورغم هطول المطر بشدة في هذا اليوم، إلا أن المظاهرة صارت حاشدة بالناس، ولا شك أن وجود هؤلاء الفنانين كان محفزًا كبيرًا للكثيرين علي المشاركة، فعادت المظاهرة إلي الميدان تحُفها حالة من الاحتفال والفرحة بهؤلاء الفنانين الذين التفَّ حولهم الناس ووثقوا فيهم، علي العكس من آخرين، تعودوا أن يُحملوا علي الأعناق وتلقي عليهم الورود ويهتف باسمهم المعجبون، ولكنهم خانوا الشعب في ثورته فاستحقوا ما حاق بهم من مهانة وانكسار! ومن هؤلاء المطرب الذي لُقب بنجم الجيل تامر حسني، وواقعة الاعتداء عليه في الميدان مشهورة تناقلتها مواقع الإنترنت وشاشات الفضائيات، وقد كنت أحد الشهود عليها، حيث ذهبت بعد منتصف هذه الليلة لآخذ بطانية من جانب منصة الإذاعة التي شهدت الواقعة، فقد كان البرد شديدًا ولم تكن الأغطية كافية، وعندما وصلت إلي المنصة كان حولها عدد بسيط، استحوذ علي اهتمامهم الخبر الخطير الذي أعلنه القائم علي الإذاعة حين قال: "يا جماعة.. فيه مفاجأة.. تامر حسني عايز يقول لكم حاجة"، وظهر تامر علي المنصة ومن حوله أكثر من عشرة "بودي جارد"، وبمجرد أن أمسك الميكروفون، رفض الشباب الاستماع إليه، وكيف يسمعون كلامه وهو الذي أخطأ في حق المتظاهرين وكال لهم الاتهامات؟ هاج الواقفون وهتفوا رغم قلة عددهم مطالبين بنزوله، لكنه حاول بكل الطرق استمالتهم: "يا شباب اسمعوني.. أنا عايز أقول... اسمعوني بقي!" لكن لم يأبه أحد به، بل رددوا بصوت واحد: "انزل.. انزل.." كان كل شيء يؤكد عدم رغبة حقيقية في الاستماع إليه، لكن الفتي المدلل ظن أنه لا يزال قادراً علي استمالتهم بصوته الذي طالما صفقوا له، فرفضوا بإصرار، وأجبروه علي النزول.. وعندها وقعت المنصة بمن فوقها! وسارع بعض الشباب إلي تكوين حلقة حوله لحمايته من الغاضبين الذين حاولوا الاعتداء عليه، حتي أبعدوه من الميدان.