هل كان ينبغي لنا أن نصل إلي هذه الحالة، حتماً مقضياً أم انها وليدة المقدمات العريضة لمشهد سياسي واجتماعي مهلهل، لم يكن أحدٌ يتوقع انفلاته إلي هذا الحد، لأن التوقعات جميعها كانت تجافي احتمال حدوث ثورة بهذا الحجم. وكثير من الذين ينظرون ويقرأون الواقع المصري قبل الخامس والعشرين من يناير يعتبرون أن الجسد الجماهيري كان قد خمد تماماً ولم يعد قادراً علي الحركة المرنة من أجل إحداث أي خلخلة لهذا الواقع المرير، وأيضاً كانوا يعدون مغادرة الروح لهذا الجسد الهامد شيء طبيعي مادامت كل المغذيات لها قد انطفأت جذوتها تماماً، وأصبح الناس في مواقعهم مهما كانوا آلات وأدوات يستخدمها النظام الحاكم لمصلحة حفنة معدودة مقارنة بملايين تفوق الثمانين انتهي حالها إلي دوامة مستحكمة يسعون فيها كالسوام هائمين علي وجوههم، معزولين عن بعضهم البعض، لا يكاد أحدهم يسمع الآخر أشجانه ومآسيه، وما أقسي أن يمضي ذلك عقوداً في عمر الشعوب. ولعل أحداً من هؤلاء لم يكن ليمتلك قدرة النفاذ ببصره وبصيرته إلي رؤية واستشراف ما كان يجري في باطن الأرض وهي حبلي بالغضب والسخط الذي يغلي في الصدور، وهناك عنصر واحد من عناصر كثيرة فوق المئات كان كفيلاً بتطوير هذا الغضب والسخط الشعبي الغالب إلي فعل قاسٍ يهز الوطن برمته ويضعه أمام العاصفة القادمة من أي اتجاه، فالبطالة بطرفيها الواقعة والمقنعة كافية لأن تهيئ المجتمع تدريجياً للانهدار إذا لم تعالج في غضون سنوات قليلة بخطط محكمة واضعة نصب الأعين خطورة تزايدها وتفاقمها إلي حد الانفجار الذي لا تتوقع أبداً موعد حدوثه خاصة مع الجياع الظامئين إلي غذاء الروح والجسد معاً. ثم في الوقت الذي تفاقمت فيه البطالة، وتكدست البيوت بالعاطلين والشباب المحبطين، كان علي الجانب الآخر يُري هؤلاء القلة من أبناء الطبقة الجديدة التي حلت محل الإقطاع وأرباب المال، تحت لافتة كبيرة تدعي أنهم رجال أعمال شرفاء، كان المشهد يتجه بالفعل إلي صراع طبقي مؤكد اختلق فيه رجال الأعمال تحت رعاية النظام جيشاً مدججاً بالسلاح والحقد والجهل ليواجه غضب الشعب ويكبته في الوقت المناسب دون أن يحتاج إلي عناء كبير، فقدر يسير من الأموال المكدسة لديهم يحل هذه المشكلة، ويضع الشعب أمام نفسه في مواجهة غير متكافئة، حيث الشباب العاطل المحبط بعد رحلة تعليم شاقة أنفق فيها كل ما لدي أسرهم من مال ومتاع، وعلي الجانب الآخر كتائب البلطجية الذين هجروا التعليم، وأخذتهم الشوارع مطلوقين ضالين يبحثون عن لقمة العيش فوجدوها سهلة لكن بشرط أن يتحولوا إلي وحوش مفترسة ضد مجتمعهم وأهليهم. أن يصل النظام إلي هذا الحد من الكفر بكل المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية، وينحط إلي درجة تحويل المجتمع إلي هذا الشكل وهذا المنطق في العيش، ويدعي زوراً أنه يقوم بعملية إصلاح وانحياز للفقراء، وأعيد السؤال الذي يلازمني منذ إدراكي الأول للسلوك الإجرامي الذي يمارسه النظام حتي يبقي أطول فترة ممكنة ولو استدعي الأمر أن يقتل الناس بعضهم البعض، أو يعرضوهم للغادي والرائح كما كانت تعرض الديكة في صراع أو الصفاعنة »شيء كالمصارعة ولكن بالصفع«، أسأل: هل كان النظام يدرك خطورة ما أقدم عليه من شر وهم أبناء وطن وأخوة وصلات رحم، كيف انتهي بنا الحال إلي هذه التراكمات والمركبات المروعة من السرائر والنفوس، التي لم يكن أمامها طريق آخر غير الانفجار المفاجئ، ونتيجته معروفة في مثل هذه الأحوال أن يصل شرره إلي أبعد مدي وأن تتخذ حممه سبيلها إلي وجهة غير معلومة. والمؤكد أن النظام سقط لكن مخلفاته التي تراكمت في الباطن لاتزال تعمل في عشوائية ليس لها آخر، ولا أحد بمقدوره أن يتعامل معها بقواعد معينة ولا بأساليب لطيفة كالتي نراها اليوم من حكومة الثورة البطيئة والمرتخية كأنها تسير في درب مظلم، تتحسس أو تستغيث. إنني أستطيع أن أحدد الآن مدي فداحة الجرم الذي ارتكبه النظام في حق هذا البلد وشعبه، وأدي إلي ظهور هذه الجيوش التي تريد أن تخطف مصر بالقوة في اتجاه مجهول الهوية لنا، معلوم لديهم، وإذا كان ذلك هو الثمن الباهظ الذي يجب أن يدفعه الشعب الصامت عندما ثار، وحطم أغلاله، فإن الواجب الأولي الآن أن يعرف من بيده مقاليد الأمور حقيقة الموقف ولا تأخذه في الحق بهؤلاء الذين يريدونها عوجاً أي رأفة أو رحمة. دفتر أشعار الثورة علي إيقاع ثورة مصر.. تقوم الشعوب وتشرب من فيضان ثوارها ومن نبضها تقوم الخطوب وتمضي الحقيقة شعلة نور من عينها تضيء الدروب فللحائرين وللغاضبين وللثائرين علي القهر والظلم والموت تصنع مصر ضمير الشعوب