نواصل اليوم الإبحار مع الدكتور عبد السلام المسدي، في شهادته علي النظام الدكتاتوري السابق في تونس، وذلك في كتابه الذي ينشر خلال أيام: "تونس وجراح الذاكرة". يقول المسدي (ص 29): عندما تجرك الأقدار أن تكون وزيرا مع الحاكم بأمره - ليوم أو لشهر أو لعام - فإنك تفقد شيئا من ذاتك طالما هو علي سدة الحكم الجائر، وذلك بصرف النظر عن أسباب مغادرتك المنصب وخاصة إذا كان ذلك ناتجا عن عدم انصياعك المطلق إلي الحاكم المطلق. وطيلة العقد الأخير من جمهورية الرعب هاجرت بكتاباتي السياسية أنشرها خارج الوطن، كنت أقول إن التوزيع هناك أفضل، وهو فعلا أفضل، ولكن المثقف يسعده أن ينشر كتبه في بلاده، علي الأقل في طبعتها الأولي وهو ما كنت أفعله مع كتبي الأخري، ولكن عناوين الكتب أوشكت أن تصبح لعنة إذا ما اشتمّ منها الرقيب رائحة السياسة، وهكذا سافرت بالكتب وبعناوينها إلي القاهرة وبيروت ودبي: العولمة والعولمة المضادة - السياسة وسلطة اللغة - تأملات سياسية - نحو وعي ثقافي جديد. ويستطرد المسدي: في جمهورية الجور، إذا راجع المثقف درسه الفلسفي الأول شك في نفسه، واتهم ذاته، وهمس له ضميره الكليم: ألا تكون باحثا عن مسوغات الجبن ومبررات الصمت؟ وإذا بك تنتفض صونا لماء الوجه تري أن الصمت في زمن الجور - وبمعايير النسبية العادلة - قيمة كبري لدي المثقف، فبالصمت يرفض الاصطفاف في قافلة المهللين بالتزكية، والمتصدقين بالولاء، والمناشدين بالمحبة والفداء. ويستشهد المسدي بموقف رواه له الدكتور حسن حنفي عندما سأله عن سبب عدم زيارته لتونس الخضراء منذ زمن، فرد عليه قائلا: "السبب أني دُعيت يوما إلي تونس، ثم رَتب لي المستضيفون لقاء مع رئيسكم، دخلت عليه وسلمت، فبادرني دون تمهيد: أريدك أن تكتب مقالا تشهِّر فيه بفلان فقد خبروني أنك علي خلاف معه (وفلان هذا هو شخصية تونسية معارضة تعيش في المهجر، تنتمي إلي أحد الاتجاهات الدينية) فانتفضت انتفاضا ورددت رافعا صوتي: مستحيل، مستحيل، أنا علي خلاف معه من الناحية الفكرية ولكني لا أتولي هذه المهمات. ويواصل د. حنفي رواية ما حدث معه للمسدي قائلا: غضب الرئيس واحتقن وقال: انتهت المقابلة. رجعت إلي الفندق فوجدت أغراضي وحقائبي كلها مبعثرة، حان وقت السفر فلم يأتني المرافق ولا سيارة المراسم كما كان ساعة الاستقبال. ويروي د. المسدي في كتابه قصة دخوله معترك السياسة، قائلا: كنت في قلب الأحداث، سابحا في أمواج الدوامة السياسية بامتلاء طافح، ولكن ناظري ظل متقدا، يتابع، يرصد، يتعقب. كنت "المثقف" الذي نادته السياسة رافضا أن يكون المثقف الذي يحترف السياسة، وكان بين جوانحي صوت يهمس: لا تخُن نفسك، كُن كما أنت، جامل ولا تهادن، تكلم حين يسكت الآخرون واسكت حين يتكلمون، وظل بصري محدقا ينغص عليّ راحتي، ويدفعني إلي التأمل الحيران الذي يوقظ جذوة الوعي حتي يصيره وعيا شقيا. ويواصل المسدي اجترار الماضي؛ في إطار شهادته علي دولة الجور وجمهورية الرعب، تلك التي بدأت بعد بيان السابع من نوفمبر 1987 - الذي خطَّه زين العابدين بن علي بيديه ذ فيما عرف بالعهد الجديد، أو الثورة الهادئة، أو التحول المبارك، تلك المرحلة التي لم تدُم الفرحة بها طويلا، ومن بين الذين عاشوا "انخلاع الفرحة بمرارة"، الدكتور المسدي نفسه، الذي يبرر مرارته قائلا: الذين تيقظوا خارج سياج المسؤولية استمتعوا بيقظتهم، أما أنا فكنت داخل الحصار يمزقني التناقض فأغالبه، يريد إذابة شموع الوعي فأصده وأصر. بعد ذلك يقدم المسدي صورة لطبيعة الحاكم الجديدذ وقتها ذ الذي يخطط ليستبد بالحكم، فيقول (ص 63): منذ البدايات، وجموع الجموع مندفعون في تفاؤلهم واستبشارهم، طفقت تتدفق في خاطري صور لهذا الزعيم الجديد تتنمق برسوم غريبة فتتثبت عندي قناعات: كائن جُبل علي تقلب المزاج بحسب طوارئ المصالح، كائن لا يُؤمَن جانبه، كائن لا تطول عشرته لأحد إلا بشرط واجب هو الامتثال حتي الانصياع والذوبان، ومع ذلك يظل الشرط غير كاف؛ لأن بذور الاستبداد تولِّدُ عند صاحبها نشوة قصوي. ويضيف في موضع آخر (ص 71) محاولا كشف أسرار الحكم الاستبدادي: للحاكم بأمره صبر عجيب يندرج ضمن استراتيجية طويلة النفس، يعلم علم اليقين المسبق أنه سيظفر في نهاية المطاف بالتحكم الانفرادي المطلق،. ونواصل الأسبوع المقبل شهادة الدكتور المسدي علي جمهورية الرعب، التي قوَّضت أركانها ثورة 14 يناير في تونس.