قدم تخطو نحو المجلس وقدم نحو الميدان. هكذا يفعل الإخوان ويتصورون أنهم بهذه التفشيقة الواسعة يضمنون السيطرة الكاملة علي البلاد، علي اعتبار أن مصر (الأرض والبشر) ليست سوي هذه المسافة التي نراها اليوم بين المجلس والميدان. في جمعة القصاص نزل الإخوان إلي التحرير، وفي جمعة الإنذار الأخير لم ينزلوا، أي أنهم بين الثوار وليسوا بينهم. أيدوا رؤية المجلس (الانتخابات أولاً) ثم عارضوا رغبة المجلس في وضع القواعد الحاكمة للجنة الدستور، أي أنهم مع المجلس وليسوا معه! قواعد لجنة الدستور خطوة يمكن أن يراها المراقب محاولة من المجلس لتقليل الهوة بين ما يطرحه من ترتيبات (الانتخابات أولاً) وبين ما تريده معظم القوي السياسية التي تري خطورة ترك الدستور لبرلمان لن يأتي بجديد. وهذا التخوف في محله ؛ لأن مواليد ما بعد الخامس والعشرين من يناير، الذين لم يلوثوا بعد، لا يزالون رُضعًا وليس من حقهم الترشيح. لم يلعب الإخوان علي الحبلين في أيامنا العصبية هذه فحسب، لكنهم يلعبون هكذا منذ تأسيس الجماعة، والغريب أنهم جربوا علي مدي تاريخهم الطويل مأساة التحول من صياد إلي طريدة في كل مرة يراهنون فيها علي ذكائهم وغباء الآخرين. دائمًا ما يتولي الإخوان تعكير المياه ويخرجون للصيد فتفاجئهم الأحداث، ويجدون أنفسهم في شباك صياد آخر. وبدلاً من أن يتعلموا من تاريخهم صار إدمان التحالفات الخاطئة وإدمان الخسارة ثابتًا من ثوابت الجماعة مثله مثل شعارهم الفضفاض: "الإسلام هو الحل". في الثورة، لم يدرك الإخوان أن مصر تتغير؛فواصلوا ألعابهم. في 25 يناير لم ينزلوا، ثم وجدوا أن الثورة تنتصر فنزلوا، وعلي الرغم من القبول الحسن الذي تلقي به الثوار شباب الإخوان في الميدان، نفضت قيادات الإخوان أيديها سريعًا من مبدأ الشراكة السياسية لتقود مع أعدائها من السلفيين عملية تزوير الاستفتاء علي الدستور. وجاءت النتيجة المشوهة، بعد عملية التزوير عن بعد التي قادها الإخوان وساهمت فيها الكنيسة جزئيًا بتحويل الأمر إلي صراع ديني. والتزوير لا يشترط بالضرورة التلاعب في النتائج أو منع الناخبين من الوصول إلي مقار الانتخاب، هناك التزوير عن بعد بالتضليل، وهو ما تم في ذلك الاستفتاء، الذي حمل الإخوان فيما بعد نتيجته علي أسنة الرماح معتقدين باعتبار أن الانقلاب علي نتيجته انقلاب علي إرادة الأمة! كانوا يمالئون المجلس عندما رأي هذا الرأي، لأنهم يتوقعون الفوز بأغلبية نيابية تتيح لهم تفصيل دستور بسيفين متقاطعين، وعندما بدا أن المجلس يريد اللقاء مع رؤية القوي الأخري في ثلث الطريق، لم يعجب ذلك الإخوان. ومن الغريب جدًا أن يرفض فصيل سياسي وضع قواعد حاكمة لتشكيل اللجنة التي ستتولي وضع الدستور. ولا تفسير لهذا الرفض الإخواني إلا أنهم يريدون الاستئثار بالرأي، ويحاولون ابتلاع مصر وثورتها من دون أن يضعوا في حسبانهم إمكانية الاختناق باللقمة. من أجمل ما قيل قبل تنحي مبارك ليس ضرورة أن يذهب مع نظامه؛ بل أن يذهب مع معارضته. لا أذكر من القائل، لكنها عبارة صائبة؛ فالنظام عندما يفسد تواجهه معارضة نزيهة لبعض الوقت، وعندما يدوم الفساد يتحول إلي مؤسسة تصبح المعارضة جزءًا منها. ولعلنا لم ننس أن هذا التماثل بين النظام ومعارضته هو الذي أفقد المصريين الثقة في المنظومة التمثيلية كلها؛ فأزاحوها مثل كومة روث، وصنعوا كياناتهم الجديدة من "كفاية" إلي 6" إبريل"، و"كلنا خالد سعيد" وغيرها من تجمعات الشباب والشيوخ. لم يستوعب الإخوان هذا الدرس ولم يستوعبوا درس الميدان، لكن شبابهم استوعبوه. فالقيادات التي كانت تقوم بزيارات ميدانية تلقي فيها الخطب العصماء وتنصرف لم تر تعايش شباب الجماعة وتضحياتهم في ليلة الثامن والعشرين السوداء خاصة، ولم يروا كيف انصهر هؤلاء الشباب مع غيرهم، وكيف بدأ شبابهم يميلون إلي كونهم شبابًا أكثر من كونهم إخواننًا، وأن الاختلاف في الرأي يجب ألا يولد البغضاء والاتهامات الظالمة بالكفر. تقاسم شباب الإخوان مع غيرهم في ليالي الميدان الغضب والخوف والفرح والشاي الفاتر والخبز الحاف، وانصرفوا وفي رؤوسهم بذور التفكير في إمكانات المشاركة والقبول بالآخر. ويومًا ما قريبًا ستتناقص قدرة الجماعة علي التعبئة؛ لأن زمننا المختلف فضح خطورة الاصطفاف علي أساس ديني، وخطورة اتباع القادة الملهمين سواء كان إلهامهم باسم الرب أو باسم السلاح. ومن يتابع مناقشات الإنترنت يري أن إرهاصات التحول لدي شباب الجماعة قد بدأت. وعندما ننجح في وضع نظام حقيقي للتعددية السياسية لن يبقي أثر لمبارك ومعارضته. وربما يدرك الإخوان هذه الحقيقة؛ لهذا يقاومون التغيير بطريقتهم المثلي، وهي وضع قدم هنا وقدم هناك، لكن هذا اللعب ليس أكثر من "حلاوة روح" لا يمكن أن تنفع صاحبها؛ لأن القدر قال كلمته. لو كان النظام الذي خطف مصر أقل فسادًا وتوحشًا، ربما كان من الممكن التضليل، لكن ناره التي أخرجت جيلاً من ذهب هي نفسها التي أكلت الصدأ، ولسوف يتساقط عن وجه حياتنا السياسية. مسألة وقت ليس أكثر.