كلما استمعت إلي هذه الأغنية للفنان النوبي، محمد منير، أتذكر فيلم يوسف شاهين "المصير"، والحالة التي مر بها المجتمع عند ظهوره. كان الصراع علي أشده بين الذين يريدون سحبه إلي الوراء تحت مسمي سلفيين, وبين دعاة التنوير أو التقدم بالمجتمع إلي الأمام في طريق تطوره. كان "المصير" انحيازًا كاملاً إلي المنهج العقلاني الذي تمثل في شخصية ابن رشد، العالم الفيلسوف الذي استفز منهجه قوتين معارضتين: إحداهما داخل الدولة الإسلامية، بفكرها التخلفي، والأخري أوروبية تحارب للدفاع عن مكتسباتها الاجتماعية ضد قانون التطور. هذه تشهر بابن رشد، وتلك تحرق مؤلفاته في صراع عنيف مرير محزن!. لكنه ينتهي إلي نتيجة وحيدة صحيحة هي انتصار فكر ابن رشد علي معارضيه، وزوال الغمة، وخروج العصر الحديث من رحم عصر منقرض. كانت "لسة الأغاني ممكنة" دعوة للأمل، والإصرار، والتفاؤل. تذكرت الأغنية في هذه الأيام التي ينشغل فيها الجميع بالمستقبل، ويتشككون في صدقية الحاضر، حتي وصل الأمر ببعض الرموز الشبابية الجديدة إلي التشكيك في أن الثورة نجحت وأن هناك من يسحبها إلي دوامة ما قبل 25 يناير. وأقول إن مقياس النجاح يجب أن يكون محددًا، أو متفقًا عليه حتي لا تختلف النتائج. نجاح الثورة يعني الإيمان بأن ما قبلها كان خطأً، وسوادًا. فهل يشكك أحد في هذه الحقيقة؟. لا أظن. نجاح الثورة يعني أن ما تكشف من عورات سياسية في اغتيال إرادة شعب بأكمله لصالح فرد شاءت أمه، وأبوه أن يجعلاه ملكاً علي جمهورية!، وشاءت إرادة الله، وعزم الشعب أن ينجو الوطن من الكارثة، فهل يشكك أحد في هذه الحقيقة؟. لا أظن. نجاح الثورة يعني أن ضبط هذه المسروقات التي هي من حق أفقر أبناء الشعب من أراض وتحويلها من مزارع إلي منتجعات، وتحول الاتهامات إلي محاكمات انتهت إلي أحكام... فهل يشكك أحد في أن هذا كان من فضل الثورة؟ لا أظن. وهل يدل ذلك علي نجاح الثورة أم لا؟ وإن لم يدل علي نجاحها فعلي ما يدل؟ نجاح الثورة يعني أن يعبر كل صاحب حق عن مطلبه، مهما كان سوء حال البلاد الاقتصادي والإنتاجي، ويجد من يطمئنه، ويحاول إصلاح ما أفسدته سنوات التجريف من حقوق الناس والوطن. فإن لم يكن هذا دليلا علي نجاح الثورة فعلي ما يدل؟ ولماذا وجدت أساساً مثل هذه الأفكار المتشككة في النجاح أو المشككة فيه؟ أو علي أقل تقدير في مدي النجاح؟!. السبب في رأيي يكمن في ظهور اتجاهات لم تكن موضوعة علي قائمة الفعل الثوري عند قيام الثورة بالصورة التي تخيلها شباب 25 الذين وضعوا "مانيفستو" ثورتهم علي نوافذ البوابات الإلكترونية، واستطاعوا أن يجيشوا مئات الألوف، ثم ملايين المصريين؛ شبابًا ورجالاً ونساءً وشيوخاً وعجائز، مدنيون وأزهريون وقساوسة. أقول: نجح هؤلاء الشباب في تجييش هذا الحشد الضخم في كافة ربوع مصر، وليس في ميدان التحرير فحسب. حتي أضحي كل ميدان في مصر ميداناً للتحرير, وصار كل شارع في مصر طريقا للحرية. وبهذه المناسبة أنبه إلي خطورة ما حدث في الأسبوع الماضي علي أبواب مسرح البالون إلي مبني التليفزيون إلي ميدان التحرير إلي شارع محمد محمود إلي محيط وزارة الداخلية، والاستفزاز المتبادل سواء بالإهانات والسب عبر الميكروفون من ناحية، وتحميل أجولة بكسر السيراميك واستخدامه لإثارة فوضي وضرب في أعمال بلطجة تستغل انشغالنا بترتيب البيت المستقبلي، فتشدنا إلي معارك تخريبية تدميرية لإفساد وإفشال صناعة الوطن بأبنائه الجدد، وإفساد الفرحة بالغد الواعد بالخير والنجاح. والبلطجة فعل عدواني إجرامي مأجور، ليس لدي فاعله أي حافز أو مبدأ أو رأي أو هدف، إنه باع قوته ببضعة جنيهات ولذلك لم يحدث أبداً أن شاهدنا بائعاً متجولاً يخفي ساطوراً أو سنجة أو زجاجة حارقة!. فهذا بلطجي متخف في بائع متجول، وهذا ما يجب الانتباه له حتي يعاد تأهيله عضواً صالحاً في المجتمع بعد أن يتم تفريغ ما عبأته به قوي معادية من أفكار كراهية وعدوانية.