منذ وقت مبكر بعد نجاح ثورة 52 يناير في إسقاط نظام مبارك ونحن يطيب لنا الحديث بطريقة غامضة عن قوي تهدد الثورة وتسعي إلي اجهاضها وان لم تستطع تسرقها.. نتحدث عن هذه القوي باعتبارها اشبه بالعفاريت واقرب إلي الاشباح.. فنحن تارة نصفها بالفلول، وتارة ثانية بقوي الثورة المضادة، وتارة ثالثة بالبلطجية والمخربين.. وتارة رابعة بالعناصر المشبوهة، وتارة خامسة بالمندسين، وتارة سادسة بالمتاجرين بدماء الشهداء.. وهكذا!.. دون ان نسمي هذه القوي كشخوص أو حتي كيانات. ودون ان نحدد حجمها ووزنها وتأثيرها وحدود قوتها! والغريب اننا نسينا المثل الشعبي الشهير الذي نردده كثيرا ويلخص حكمة وخبرة مفيدة، وهو المثل الذي يقول: »لا عفريت إلا بني آدم« اي ان هذه العفاريت من بيننا وتعيش وسط صفوفنا.. واننا نحن الذين نصنع بانفسنا احيانا اكثر مما يفعل اعداؤنا. نحن نترك سماء بلادنا الآن ملبدة بالغيوم في مرحلة اكثر ما تحتاج اليه هو صفاء سمائها.. أو الوضوح الشديد والصراحة التامة.. فهذه الغيوم تربك العقول وتجعل منها فريسة سهلة للاستيلاء عليها من قبل الذين يبغون تضليلها أو خداعها والضحك عليها والتغرير بها. مثلا.. نحن لا نعرف حتي الآن متي ستجري الانتخابات البرلمانية وكيف؟ هل ستجري في شهر سبتمبر طبقا للتفسير الخاص بالاعلان الدستوري.. ام سيتم تأجيلها بضعة اشهر اضافية وهو ما تطلبه قوي سياسية وعديدة، وتراه طلبا لا يتعارض مع الاعلان الدستوري الذي نص علي ان تبدأ ترتيبات الاعداد لهذه الانتخابات في غضون ستة اشهر تنتهي بنهاية شهر سبتمبر، وهو ما يمنحنا فرصة البدء في هذه الترتيبات قبل نهاية سبتمبر واجراء الانتخابات في ديسمبر أو حتي يناير المقبل.. خاصة ان قانون الانتخابات البرلمانية لم يصدر بعد، وتحديد الدوائر الانتخابية بشكلها الجديد لم يتم بعد.. ويرتبط بذلك اننا لا نعرف حتي الآن رغم انقضاء قرابة خمسة اشهر من المرحلة الانتقالية هل ستجري انتخابات مجلس الشوري ام يتم ارجاؤها حتي يتم حسم مسألة بقاء هذا المجلس من عدمه في الدستور الجديد؟.. واستطرادا لذلك نحن ايضا لا نعرف متي ستجري الانتخابات الرئاسية حتي بعد استطلاع الرأي الذي اجراه المجلس الاعلي للقوات المسلحة حول المرشحين لانتخابات الرئاسة، والتي اختار الناس في معرفة الحكمة وراء اجرائه. ايضا نحن نلتزم الصمت تجاه مسألة محاكمة الرئيس السابق.. كل ما نعرفه فقط انه تحدد يوم 3 أغسطس لبدء هذه المحاكمة.. ولا نعرف من سيحاكمه، اي الدائرة التي ستتولي ذلك، واين تتم المحاكمة.. وحتي عندما تواتر الحديث من هنا وهناك حول نوايا مزعومة لتفادي هذه المحاكمة التزم المجلس الاعلي للقضاء الصمت رغم انه الجهة الوحيدة المنوط بها الحديث الآن عن هذه المحاكمة وكل محاكمات رموز النظام السباق سواء المتورطون في قضية قتل المتظاهرين أو قضايا فساد، خاصة ان النائب العام قام بواجبه واحال معظم هذه القضايا للمحاكمة.. والصمت هنا لا يمكن اعتباره من ذهب وليس دليل حكمة لانه يثير الشكوك، وبالتالي يثير الاستفزاز، والاستفزاز هو وقود التظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات. كذلك نحن نترك الامور تجري في أعنتها ولكن للاسف لا نظفر بخلو البال في نومنا ليلا. فحتي الان مثلا لا نعرف حقيقة ما حدث قبل اسبوع في ميدان التحرير ومن قبل في مسرح البالون.. وكيف وجدت خراطيش مطاطية فارغة في الميدان ومن استخدمها في ظل نفي وزير الداخلية استخدام الشرطة اية اسلحة.. أو من يملك الاتوبيسات التي كانت محمولة باناس حاولوا اقتحام مسرح البالون ومن هم هؤلاء، وما علاقتهم باسر الشهداء؟ لقد بدأ وزير الداخلية يتحدث عن هذه الاحداث بعد مرور ايام من حدوثها وخلال هذه الايام اختلطت الشائعات بالمعلومات الصحيحة وضاعت الحقيقة. وبالاضافة إلي ذلك كله لا احد يتحدث إلينا بوضوح وصراحة، سواء بالنفي أو التأكيد للاخبار التي تلوكها الألسن والمواقع الالكترونية والصحف حول رغبة د.عصام شرف في تغيير سبعة وزراء، وعجزه عن تحقيقها.. وهو ما فتح الباب للحديث عن خلافات بين شرف والمجلس الاعلي للقوات المسلحة، وهو ما يذكرنا ايضا بعدم تقديم تفسيرات مناسبة لبعض القرارات مما ساهم في ترويج مزاعم حول صفقة بين المجلس والاخوان رغم ان المجلس اعلن بوضوح ان مصر لن تكون ايران أو غزة.. وهكذا.. رغم كثرة ما ينشر ويذاع ويتداوله الناس باتت الغيوم تلبد سماء بلادنا وتحجب الرؤية السليمة عن الكثيرين منا، وتشوش تفكيرنا، وبالتالي تجعلنا اكثر استعدادا لقبول الشائعات بل وللاسف ترويجها ايضا.. لقد كانت مشكلتنا السياسية الاكبر في السنوات الاخيرة خلال عهد مبارك هو اننا لا نعرف شيئا عن المستقبل السياسي لبلادنا.. أو لا نعرف ماذا سيحدث غدا لنا سياسيا. واخشي اننا بعد مرور قرابة خمسة اشهر علي سقوط نظام مبارك عدنا لنعاني ذات المشكلة التي كنا قد تخلصنا منها بضعة اسابيع قليلة، ارتفعت خلالها أمالنا وعلي سقف توقعاتنا في ان نظفر بدولة مدنية ديمقراطية عصرية عادلة. وبصراحة شديدة كلنا الآن مسئولون عن الخروج من هذه الحالة..أو مسئولون عن ازالة هذه الغيوم التي تملأ سماء بلادنا. واذا كان ذلك يقتضي منا عملا متصلا وواسعا فان هناك مجموعة من الاجراءات المهمة التي يتعين البدء بها. وعلي رأس هذه الاجراءات حسم كل ما يتعلق بمهام المرحلة الانتقالية بوضوح لا لبس فيه، خاصة ما يتعلق بالانتخابات البرلمانية والرئاسية والمواعيد المناسبة لها.. وهذا هو دور المجلس الاعلي للقوات المسلحة وهو دور يساوي في الاهمية دور آخر ننتظره منه وهو الاتفاق مع جميع الفرقاء علي تمثيل كل القوي السياسية في لجنة اعداد الدستور، وعلي مجموعة من المباديء الاساسية التي يتعين ان يتضمنها هذا الدستور. ثم يأتي بعد ذلك اسراع الحكومة بحسم مسألة رعاية وعلاج جرحي ثورة 52 يناير، ومسائل اختيار قيادات جديدة في عدد من الهيئات التي لم يطلها التغيير بعد.. ويقترن بذلك اسراع المجلس الاعلي للقضاء في ظل رئاسته الجديدة تحديد موقف واض من محاكمة الرئيس السابق ورموز حكمه.. فهذه مسئوليته وليست وزير العدل الذي لا وصاية له علي المحاكم.