»ابني محيي مات«.. كان صوتها مخنوقاً بالبكاء الهستيري.. استغرقت وقتاً طويلاً وهي تصارع آلامها حتي تلملم شتات نفسها لنقل الخبر بعد عدة أيام.. لكي تنطق أصعب جملة علي قلب أي أم »ابني مات«. فهل تذكرونه؟.. محيي ذلك الوجه الملائكي.. الشاب البسيط الذي ساهمتم في رسم ابتسامته سابقاً.. كان قد كتب عليه القدر أن يصاب بالورم الخبيث في عموده الفقري منذ عدة أعوام.. وأمام ضعف امكانيات العائلة توحش الورم. ذعرت الأم. .فطافت به علي الأطباء.. تعددت الجراحات.. تسببت إحداها للأسف في تلوث وصديد وتدهور الحالة.. تشعب الألم حتي الأعصاب.. والنخاع الشوكي.. وتحول ليله إلي لهيب.. فهو يقضيه دائماً صارخاً.. وأمه إلي جانبه باكية.. والحقيقة أني لا أذكر أني رأيتها دون أن تكون الدموع منهمرة من عينيها وقد أغرقت طرحتها السوداء.. وكأنها أصبحت سمة مميزة لها. مازلت أذكر اللقاء الأول بوضوح.. عندما فاجأني شاب صغير في السن في حوالي 81 عاماً يستند علي عكاز بيد وتسنده أمه من الناحية الأخري.. كان به سمة مميزة لم أدركها حينئذ.. ربما كما يقولون إن أبناء الموت يظهر عليهم ذلك.. كان يخطف القلب.. لديه حالة مميزة.. رغم ألمه الفظيع وعدم قدرته علي تحمل البقاء في وضع واحد.. إلا أنه كان هادئا مؤمنا بقضاء الله وقدره.. يبكي في صمت.. يرجو أن نجد له حلاً . وعندما نشرت »الأخبار« قصته نهاية العام الماضي.. سرق قلوب القراء سريعاً.. ففي ذات اليوم تلقينا عدة اتصالات من وزارة الصحة ومساعدات القراء.. انقلب حال الأسرة في دقائق بفضل الله.. وشعروا بالأمل مرة أخري.. سنحت الفرصة لمحيي للكشف في أهم مستشفيات القاهرة ولكن للأسف كانت الحالة متأخرة للغاية.. وكانت الجراحة تمثل خطراً علي حياة محيي.. فقام الأطباء بإعادته إلي بيته مرة أخري.. ليعود إلي معاناته واحتياجه إلي حقن مسكنة باستمرار.. ومع بدء الثورة اشتدت المعاناة وأصبح تحت رحمة من يحن عليه من الأطباء بالتعامل الجيد والاهتمام، ومن يرفض.. حتي رحمه الله واختاره إلي جواره بعد إصابته بنزيف.. ليرتاح محيي بعد حياة قصيرة شعرت خلالها وكأنه كان أقرب إلي القديس . أما أم محيي تلك السيدة الطيبة التي فقدت ابنها الوحيد ولا تمتلك عائلاً ولا مورد رزق.. فندعو لها جميعاً بالصبر وبالرحمة.. كانت أمنيتها الوحيدة هي أن نطل عليها بالسؤال وألا ننساها في وحدتها.. أما حلم عمرها فيبقي عمرة أو حجة إلي بيت الله الحرام.. تعوضها فجيعتها عن ابنها وسنوات المعاناة.. فهل من مستجيب ؟