قصور أسرة محمد علي.. مفتوحة كالسماء.. ويستطيع أمين عام رئاسة الجمهورية.. ان يتصرف في محتوياتها.. براحته.. ويستطيع أي موظف صغير.. أن ينقض علي ممتلكات الملكة الأم.. وينزع مصاغها وجواهرها.. وفصوصها الثمينة وينقلها في الصناديق.. إلي خارج القصور التي سقطت عنها العروش.. وبات كل ما فيها نهبا.. منهوبا. وما يحدث في قصور أسرة محمد علي يتكرر في متاحفنا.. ومقابر أجدادنا.. وحفريات الحكومة.. تارة.. وحفريات الأهالي.. تارة أخري.. لسبب بسيط.. هو أن هذه التحف النادرة.. هي بترول القرن الواحد والعشرين! بعد سنوات قادمة.. سوف تنضب آبار البترول وينتهي عصر أثرياء البترول.. ويبدأ عصر أثرياء التحف والآثار.. ولوحات كبار الفنانين الذين انتقلوا لرحمة الله منذ مئات السنين.. وسينتهي الزمن الذي كنا نردد فيه »أن القناعة كنز لا يفني«.. ويصبح شعار العصر هو (ممتلكات ومجوهرات وآثار الأجداد.. كنز لا يفني).. ويري كبار سماسرة الآثار.. ان عصر النقود قد انتهي.. وان القيمة الشرائية للعملات في انخفاض وتدهور.. وأن القطع الأثرية التي تعود للعصر الفرعوني.. هي المخزن الحقيقي للقيمة.. وأن قيمة لوحة »زهرة الخشخاش« ترتفع سنة بعد سنة.. ولا تجعل صاحبها يشكو دهره علي الاطلاق. البترول.. لا مستقبل له.. وستحل محله أقراص نووية صغيرة في حجم قرص الاسبرين الفوار.. تسير بها السيارات وتحلق بها الطائرات.. فوق السحاب. البترول.. هو الماضي.. أما الآثار.. ومنابر المساجد الأثرية وأثاث مسجد النور بالعباسية.. فهي بترول المستقبل الذي لا ينضب.. بحكم الندرة. كل تمثال فرعوني يخرج من مصر.. علي نفقة الدولة.. ولا يعود هو بئر بترول.. في مخزن لص كبير.. أو عضو في عصابة مكونة من أربعة أشخاص! ويري الخبراء ان الأرباح التي تحققها عصابات السوق السوداء من تجارة الآثار والتحف القديمة.. تفوق أرباح عصابات المخدرات وتهريب اليورانيوم. بالنسبة لنا في مصر.. فإن سرقة كنوز أسرة محمد علي ومقتنيات القصور الملكية.. من لوحات ونياشين وأوسمة وأختام ملكية.. وعصي مرصعة بالفصوص والأحجار الكريمة.. الخ.. لا تقتصر فقط علي قيمتها المادية.. وإنما هي من قبيل القضاء علي ذاكرة الأمة.. وتاريخها. وروي لي السيد عبدالمنعم الصاوي سنة 3791.. في حضور السفير مصطفي راتب والأستاذ حلمي شعراوي خبير الشئون الافريقية.. والحزن الشديد يبدو علي ملامحه.. ان الرئيس الراحل أنور السادات.. كلفه بتقصي الحقائق حول اللوحات الفنية والمقتنيات الأثرية بقصر عابدين.. وانه ذهب إلي هناك.. فوجد العشرات من اللوحات الزيتية.. لأعضاء الأسرة المالكة التي رسمها كبار الفنانين الأجانب.. من أصحاب الشهرة.. والمكانة الفنية الرفيعة.. والذين تعد أعمالهم من التراث الدائم.. مهما تقلبت الأحوال وتبدلت الأزمان.. وقد لقيت من الإهمال علي مر السنين.. ما حوَّلها إلي خرق بالية.. وأن خصوم النظام الملكي قد مزقوا بعض اللوحات.. وقضوا علي أرشيف وطني.. كان يتعين علينا المحافظة عليه وصيانته باعتباره كنزا لايفني.. ونقله للأجيال القادمة. وقال عبدالمنعم الصاوي انه سيقدم تقريرا للرئيس السادات.. لإعداد خطة لترميم هذه اللوحات التي وصفها بأنها أرشيف الأمة. ودارت الأيام.. ويبدو ان حلم عبدالمنعم الصاوي لم يتحقق.. وجاء حسني مبارك ليبدأ عصر النهب والخراب علي جميع المستويات. وفي الوقت الذي تحافظ فيه الأمم الراقية.. علي كل ورقة.. وعلي كل صورة فوتوغرافية.. نجد أننا أهدرنا كنوزا.. عن عمد وعن جهل يصل إلي حد الخيانة العظمي. ويقتضي الحال في هذا الصدد الاشارة إلي ما حدث لأرشيف الصور الفوتوغرافية المعروف باسم (مقتنيات بيتمان) أو (كنوز بيتمان). هذه المقتنيات تضم 56 مليونا من الصور الفوتوغرافية التي التقطت طوال القرن العشرين.. وتم حفظها في أرشيف خاص بمدينة نيويورك. تملكه شركة (كوربس). ويبدو ان هذه الصور قد لحقها التلف بحكم سوء التخزين وحرارة الجو.. وباتت هذه الثروة التي تشكل أهم أحداث وشخصيات القرن العشرين مهددة بالفناء.. لأن شركة (كوربس) لا تملك الأموال التي تسمح لها بالمحافظة علي هذا التراث الإنساني.. أو اجراء الأبحاث العلمية المتطورة التي تسمح لها بالابقاء عليها. في سنة 5991 اشترت شركة ميكروسوفت التي يملكها بيل جيتس.. هذه الثروة النادرة من الصور الفوتوغرافية.. وكلف مجموعة من السمار بإجراء الدراسات حول أفضل الوسائل للمحافظة علي هذه الصور وعدم تعرضها للتلف. وبعد دراسات طويلة اتفق السمار علي نقل هذا الأرشيف إلي منطقة مرتفعات ولاية بنسلفانيا.. في قاعة ضخمة تحت الأرض وفي درجة حرارة 02 درجة تحت الصفر.. وعلي عمق 07 مترا تحت الأرض. وأصبح هذا الأرشيف الآن في حيازة شركة ميكروسوفت في تطبيق رائع للدور الذي يمكن أن يلعبه القطاع الخاص في حماية ثروات الأمم. من بين الصور النادرة.. صورة مارلين مونرو الشهيرة وهي تقاوم الهواء الذي يحاول رفع فستانها إلي فوق.. بينما هي تدفعه إلي تحت لتضع الأمور في نصابها. كانت مارلين مونرو تتكسر في مشيتها.. وأصبحت هذه المشية.. علي أيامنا.. موضة بين طالبات الجامعة. وتزوجت مارلين مونرو من الأديب الأمريكي الشهير آرثر ميللر صاحب مسرحية (وفاة بائع متجول) وتقول الزميلة الأستاذة سناء البيسي.. ان رجال العالم كانوا يحسدوه.. لأنه اقتني في غرفة نومه نبع الأنوثة واصطفي لنهاره طلعة الحسن! هذا رأي سناء البيسي طبعا.. وربما يكون ميللر علي رأي عبدالوهاب (ظمآن والكأس في يده والحسن والفن والجمال.. الخ). ما علينا.. من بين الصور النادرة أيضا.. صورة ألبرت اينشتاين التي التقطت له سنة 1591 وهو يخرج لسانه للمصور.. علاوة علي صور مشاهير القرن العشرين في عالم السياسة والفن والأدب والعلوم. والطريف في الموضوع ان الذي جمع هذا الكنز من الصور الصحفية.. لم يكن مصورا صحفيا.. وإنما كان مؤرخا من مدينة لايبزج الألمانية وهو أوتو بيتمان الذي بدأ في جمع هذه الصور.. وبعد عامين من تولي هتلر السلطة سنة 3391 هرب بيتمان من النظام النازي إلي نيويورك سنة 5391 ولم يكن في معه سوي خمسة دولارات وحقيبتين مكدستين بالصور. وفي سنة 1891.. انهالت عليه العروض من أرشيف وكالات الأنباء العالمية ودور نشر الكتب والمجلات والصحف للحصول علي صور أحداث قرن كامل من الزمان. وفي سنة 5991 باع بيتمان ما بقي لديه من صور لشركة كوربس.. التي نقلت ملكيتها لشركة ميكروسوفت التي كشفت عن تعرض ملايين الصور لاحتمالات التلف.. وقامت بالدراسات التي أسفرت عن نقل الكنز إلي ولاية بنسلفانيا.. ووضعها في قاعة تحت الأرض.. وعلي درجة حرارة تبلغ 02 درجة مئوية.. كما أشرت من قبل. حكاية طويلة فعلا.. وتثير في النفس حالة من الاعجاب بكل أطرافها.. بداية بالشاب الذي فكر في جمع الصور.. ونهاي بالرجل العبقري بيل جيتس الذي أنفق ملايين الدولارات من أجل المحافظة علي ذاكرة العالم.. خلال قرن كامل من الزمان. لم يعمل أي طرف من أجل مصلحته الخاصة.. بدوافع الاحتكار والتسقيع والنذالة المفرطة.. وإنما كان الدافع في كل الأحوال هو الحب العام.. حب البشرية.. حبل ما خلقه الله علي وجه الأرض.. من إنسان وحيوان ونبات. الحب الذي يبني الأمم والأوطان.. ويخلق أجيالا جديدة لا تسرق مقتنيات أسرة محمد علي.. ولا تهرب آثار الفراعنة للخارج.. ولا تسرق اللوحات النادرة من قصر عابدين.. ومتحف محمد محمود خليل.. وزوجته. الحب الذي يعطي.. ولا يأخذ!