من خارج مصر.. لم أتمكن من المتابعة الإعلامية المحلية لما حدث في ميدان التحرير يوم الجمعة الماضية. الإعلام العالمي قدم تغطية روتينية، محايدة في الغالب، وتختلف قليلا من واحدة إلي أخري. تحدثوا عن مظاهرات حاشدة تجمعت في »ميدان التحرير« بالعاصمة وفي ميادين بعض مدن المحافظات حددتها مصادر بعشرات الآلاف، وزادتها مصادر ثانية إلي مئات الآلاف، وانتهت الثالثة إلي تخطيها حاجز »المليونية«. تغطية صحيفة »الشرق الأوسط« اللندنية لجمعة ميدان التحرير جاءت مختلفة، منفردة، رائعة في عرضها وأسلوبها ومعانيها. التغطية كتبها مراسل »الشرق الأوسط« في القاهرة الأستاذ »جمال القصاص« تحت عنوان مدهش يقول: المصريون في التحرير: »قولوا لعين الشمس ما تحماشي«. و»الطقس يعتدل بصورة مفاجئة ليساند المتظاهرين«. تفاصيل العنوان رصدها الزميل جمال القصاص قائلا: »قولوا لعين الشمس ما تحماشي لحسن غزال البر صابح ماشي«.. أكثر من مائة عام فصلت المصريين عن هذه الومضة الحميمة من فولكلورهم، لكنهم استعادوها بقوة أمس الجمعة كصرخة جماعية تناشد الطبيعة أن تخفف من حرارة شمسها، وتلطف الجو في سماء ميدان التحرير الذي واصل فيه المصريون أمس فصول ثورتهم. ويضيف القصاص: (ادرك المصريون أمس الجمعة أن هذه الومضة التي انسدلت من ذاكرة نضالهم العتيد كأغنية عاطفية شجية علي لسان المطربة الرقيقة »شادية«، لاتزال صالحة لإثارة الدهشة والأسئلة الخلاقة، فأخرجوها من عباءة تاريخهم، وتداولوها فيما بينهم علي مواقع التواصل الاجتماعي كأنشودة وطنية مغسولة بطعم ورائحة ميدان التحرير). ويذكرنا الزميل النابه بالأمس البعيد (عندما استفاق المصريون علي صرخة مدوية ممهورة بخمس رصاصات أطلقها الشاب المسيحي: »إبراهيم نصيف الورداني« علي رئيس وزرائهم المسيحي: »بطرس غالي« لترديه قتيلا أمام ديوان وزارة الخارجية منهيا نحو 5 سنوات لم يفارقهم فيها الإحساس بالذل والمهانة. هذه الصرخة التي انطلقت يوم 02 فبراير عام 0191 لم تكن وليدة الصدفة العابرة، أو الثأر الشخصي، بل كانت بمثابة حكم شعبي تعود حيثياته الواقعية إلي محكمة دنشواي الشهيرة عام 6091 إبان الاحتلال البريطاني، حين أصدر القاضي آنذاك بطرس غالي حكمه التاريخي بإعدام أربعة من الفلاحين المصريين البسطاء، وأحكام بالأشغال الشاقة والجلد لآخرين بتهمة قتل ضابط إنجليزي، مات جراء إصابته بضربة شمس أثناء قيامه وأربعة من زملائه في يوم صيفي قائظ برحلة لصيد الحمام من أبراج قرية دنشواي. في غبار الصورة.. لم ينس المصريون أن تكليف القاضي بطرس غالي بتولي حقيبة رئيس الوزراء كان محض مكافأة له علي أدائه في تلك المحاكمة الشائنة، وبالتواطؤ مع ممثل الادعاء إبراهيم الهلباوي، لم يستطع المصريون الطعن في الحكم الظالم وكتموا غيظهم تحت القبضة الأمنية التي عمت البلاد آنذاك، لكنهم في ليلة 81 مايو 0191، انفجروا في عرس جماعي، ليودعوا بطلهم الشاب المسيحي، القاتل النبيل، الذي اغتال ابن جلدته درءا للفتنة الطائفية، وهو يخطو خطواته إلي حبل المشنقة مرددين في إيقاع فريد أخرجوه من جراب تراثهم الشعبي: »قولوا لعين الشمس ماتحماشي لحسن غزال البر صابح ماشي«. وينهي مراسل »الشرق الأوسط مقاله البديع قائلا: (بعد كل هذه السنوات.. يحرس المصريون ثورتهم في الميدان، بعين تتطلع إلي الغد، وأخري مشدودة إلي السماء، وبإرادة تلقائية تحاول أن تقرب المسافة بينهما، لكنها تأبي أن تختصر الوطن في صيغ وقوالب جاهزة، وتراه أبعد وأعمق من رؤي وأيديولوجيات تحاول أن تستعيره، وتضعه كأيقونة محنطة علي طاولتها الخاصة). .. لا تعليق لي سوي تكرار إعجابي بمقال الزميل جمال القصاص.